قراءة في أناشيد طائر المنفى

حيدر قاسم الحجامي

في كتابه الصادر مؤخراً عن دار رند للطباعة والنشر يتحدث الكاتب مهدي الحسناوي عن المنفى الحديث الذي قاد الى ظهور أدب عرقي بملامح جديدة، كنتاج لظاهرة وقعت وغيرت وجه الزمن، وظلت تلك الظاهرة مغيبة بفعل إقصاء متواصل وحنث غير واضح الأسباب كما يقول الكاتب.

ولد الأدب العراقي المهاجر في منافي متعددة برؤى جديدة وروح جديدة فكان أدبا مميزاً، معبراً ومتحرراً من قيود السلطة لا رقيب عليه سوى للإبداع، وإلا فمن ذا الذي يجرؤ على إن ينكر تلك التجارب النابضة بالشعر الهامسة بالوجد المليئة بالأحاسيس التي ولدت أو اضطرت الى إن تترك حاضنتها الأولى بفعل زمن القسر الرهيب وطواحين الموت العملاقة، ومقاصل تخنق كل إرجاء الرؤية في المكان والزمان العراقي آنذاك، وإذا كانت التجارب الإبداعية وجدت لها من يدفع بها في زمن مضى فان ثمة تجارب كان عليها إن تولد في زمن لا ترعى فيه القصائد التي تشجع قطف الزهور والرؤؤس على السواء، وحين لا يجرؤ احدُ على البوح بكلمة تضيق مساحات البوح بالكثيرين، فيضطروا الى إن يعملوا أجنحتهم علها تكون قادرة على إن تحلق بهم بعيداً عن عين هذا الزمن ورقابة الحرف، وعلى أنغام سيمفونية الفاجعة العراقية ولد جيل من شعراء المنفى الذين استطاعوا إن يملئوا عالم ما بعد الوطن المحاصر بفواجع الشعر ورثائيات الزمن الجميل، الذي توقفت عقاربه عن الدوران منذُ إن تغيرت بوصلة الشعراء.

يحاول الكاتب مهدي الحسناوي الاقتراب من تصوير تلك المرحلة بإبعادها وجمعها ضمن هذه الدراسة القصيرة،من خلال دراسة الأدب المهجري عموماً والنتاج الشعري بوجه خاص، الذي يحمل من خصائص التميز الكثير لكنه لا يبتعد عن إطار نتاج تأثر بفقده حضانته الأساسية والانتقال القسري الى حاضنة أخرى لتطبع هذه البيئة الجديدة الخطاب الشعري بملامح جديدة وتنمح النص قوة الانفتاح والتوغل الى ما وراء البحث عن المفردة المدهشة المتخيلة بطباعة فوتوغرافية فحسب، بل تتحول القصيدة الى عملية تشكيل صورة المتعة الذهنية حين تكون الجملة الشعرية ذات دلالات مفتوحة على فضاءات لا وعي الشاعر المغترب الذي سيكون خاضاً بفعل النفي والاغتراب لمناطق ثلاثة (الخيال الجامح – التصور الآني –الواقع الصادم) في سيرورة تحفيز مخيالية لذاكرة مكتنزة بصور حالما يحفر الشاعر بعضاً من طمرها المتقادم تبرز ماثلة في ثنايا النص الشعري ببحثها اللا شعوري عن المكان العراقي بحميميته ودفئه.

امتازت شعرية المنفى العراقي بأنها مثلت حالة تكاملية مع جماهير شاهدة على حاضر مأزوم هاربة من واقع الحروب والكوارث والقمع، متطلعة نحو أفق مستقبلي يمثل خلاصة أمل وبارقة ضوء تومض في نهاية النفق المظلم.

اشتغل معظم شعراء المنفى العراقي على محاولة استرجاع التاريخ واستقطاع لحظات شاخصة منه ومحاولة استقراء القادم وبذا فانه يتشكل على ثلاث أزمنة في مكانين متغايرين الداخل / الخارج.

يقرأ الحسناوي هذه الظاهرة التي رسخت منذُ نفي أوائل الشعراء العراقيين بعد الثورة ضد الاستعمار البريطاني وامتدت على طول مسيرة القرن الماضي القراءة الأولى هو كما قلتُ إن هذه التجارب أصيبت بداء الانقطاع والاقتلاع عن الجذور وهذا يترك إرهاصاته البعيدة على التجربة الشعرية،ويصيب النتاج الشعري بلعنة الحزن المبثوث في اغلب تلك النصوص، وهذا طبيعي جداً لان عاطفة الشاعر هي محركه الأول في تعامله مع الفضاء الخارجي المحيطي به.

في الفصل الأول من الدراسة يتناول الرؤيا الإبداعية في الصورة الشعرية لشعر المنفى العراقي، في الفصل الثاني يتناول مفردتي المنفى والحنين التي أصبحت إحدى أهم ملامح ذلك الشعر، ويفرد فصلين من الدراسة لعبد الوهاب البياتي الذي شكل ظاهرة إبداعية عراقية وشاعرا للاغتراب وكذلك فصل لتحليل وقراءة في رائعة السياب غريب على الخليج، ولم يغفل الكاتب الحرب كمحرك وفاعل ومركز في تحريك المشاعر التي تسجل ذاكرة الحرب بإبعادها، وفي فصل أخر يتناول الموت كموضوعة ظلت تؤرق الشاعر العراقي المنفي وتدفعه باتجاه الكتابة الشعرية لأنها ملجئ اخير يحتمي به من لحظات الفناء، ولان اللحظة الإبداعية هي خارج نطاق الزمن لأنها ستبقى خالدة بخلود النص.

يسجل اسماءاً مهمة في تاريخ الشعر العراقي اختطفها الموت خارج فضاء العراقي منها الشاعر الكبير الجواهري والشاعر عبد الوهاب البياتي والشاعر مصطفى جمال الدين و الشاعر جان دمو والشاعر مصطفى عبد الله والشاعر عبد الأمير جرص والشاعر شريف الربيعي والشاعران عبود وإبراهيم الأحمد النجفي و الشاعر سركون بولص، كل هولاء وآخرين غادروا الحياة حينما اضطروا ليغادروا الوطن.

الدراسة محاولة توثيقية أكثر من كونها قراءة لانطولوجيا المنجز الشعري المهجري برمته كما يؤكد هو ذلك، مضيئاً على تجربة شعرية مهمة في ذات السياق البحثي الذي يحاول أرشفة الشعر العراقي الحديث الذي لم يحظى برعاية مؤسسية،بل اقتصر الأمر على جهود فردية قام بها صحافيين وكتاب عراقيين لحفظ أرشيف العراق الثقافي المهاجر من الاندثار من تسابق الإحداث وتلاحقها وتقادم الزمن عليها.

إن مهمة حفظ وتوثيق ودراسة وتحليل الخطاب الشعري في المنفى العراقي مهمة كبيرة ينبغي الالتفات إليها من قبل المؤسسة الثقافية العراقية اليوم وينبغي إن تدخل هذهِ التجربة ضمن حقول الدرس الأكاديمي الأدبي بقوة كمرحلة لها خصوصيتها وظروفها وعوامل تكونها وإرهاصاتها، كما ينبغي النظر بجدية الى أثرها في تطوير تقنيات القصيدة العراقية من حيث الرؤية والبناء الفني والأسلوب وغيرها نظراً لتأثر هذه التجارب بتجارب شعوب وثقافات أخرى في عملية تلاقح واسعة تمت عبر هذه الفترات المتلاحقة من المنفى الشعري العراقي.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 2/تشرين الأول/2010 - 22/شوال/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م