عندما يبتسم الموتى

كاظم فنجان الحمامي

لسنا هنا بصدد الحديث عن ابتسامات الموتى الذين حالفهم الحظ, فتوفاهم الله, ورحلوا إلى العالم الآخر, وفلتوا من جحيم الصراعات السياسية, وويلاتها المتفجرة بالأزمات, ورقدوا في قبورهم بسلام.

ولا نريد التحدث عن المرضى المشمولين بقوائم الموت السريري, وابتساماتهم الختامية في ردهات العناية المركزة, وإنما نريد التحدث عن ظاهرة الابتسامات الميتة, التي ابتكرها وبرع فيها بعض المغفلين من ذوي الوجوه الهلامية الصفراء, الذين شاءت الصدف, التي حملتها رياح المحاصصة, وغذتها حاضنات المحسوبية والمنسوبية, فسمحت لهم بالتقافز فوق سقوفنا, فتسيدوا علينا, وتحكموا بمصائرنا, وتعالوا وتكبروا وتجبروا وتبطروا, حتى وصلت بهم الصلافة والغطرسة إلى التعامل معنا بفوقية برمكية شديدة الترف, فاصطنعوا التواضع المزيف, وتظاهروا بالبساطة وخفة الدم, وتفننوا برسم الابتسامات البليدة على ملامحهم الباهتة المتحجرة, فصارت بالنسبة لنا أشبه بالماركات المغشوشة, أو العلامات التجارية المطبوعة على علب معجون الأسنان المرمية في سلال القمامة.

نادرا ما نواجههم في المناسبات الطارئة, فننتهز الفرصة لنحكي لهم عن همومنا ومشاكلنا, فيتعاملون معنا في منتهى الغلظة والعجرفة, وكأننا كائنات كارتونية لا قيمة لها, أو كأننا بهائم تناسخت في الأهوار فتطفلت عليهم, واقتحمت المدينة لتنغص عيشتهم, وتسرق راحتهم.

تراهم يتصرفون معنا دائما وكأنهم على استعداد لتلبية احتياجاتنا, ومعرفة أحوالنا البائسة, لكنهم في حقيقة الأمر على نقيض ما يظهرونه من تصرفات مفتعلة, فلا يستجيبون لمطالبنا, ولا يتفاعلون معنا, وليس عندهم ما يمنحونه لنا سوى توزيع الابتسامات المتسطحة الفارغة.

ينصتون إلينا بآذان بلاستيكية, ينظرون إلينا بعيون زجاجية لا تخضع لقوانين فيزياء الانعكاس والانكسار, قد يسمحوا لنا بمواصلة التحدث معهم, فيمنحوننا حرية الكلام, ولكن من دون أن يقاطعوننا, ومن دون أن يتعاطفوا معنا, ومن دون أن يتلفظوا بكلمة واحدة, ومن دون أن تظهر عليهم أية انفعالات, أو أية استجابات عفوية, ومن دون أن نسمع منهم أي تعليق على ما طرحناه عليهم من هموم ومشاكل لا حصر لها, وكأننا نؤذن في خرابة, فنشعر بالخجل والحرج, ونحس بالفشل, وخيبة الأمل أثناء قيامنا بمحاولة استنطاقهم عنوة,  فنتلعثم بالكلام ونرتبك, ولا نجد ما يشجعنا على مواصلة التحاور المبتور معهم من طرف واحد, فنلوم أنفسنا, ونعود أدراجنا مخذولين مقهورين, من دون أن نسمع منهم كلمة طيبة أو جملة مفيدة واحدة, ومن دون أن نتلقى منهم إشارة خفية, أو حتى إيماءة بالرأس, توحي لنا بأنهم أنصتوا إلينا, واستجابوا لمطالبنا, فردود الأفعال عندهم معطلة تماما, وأحيانا تكون في غاية السلبية, وتكاد تكون وسيلتهم الوحيدة للتواصل معنا هي تلك الابتسامات المرسومة على الشفاه الميتة, التي صارت من ابرز العلامات الفارقة المطبوعة على وجوه أصحاب المواقع الإدارية والقيادية المرموقة.

ابتسامات عجينية لا تفارقهم أبدا, حتى عندما يكونوا في اشد الحالات تذمرا وقلقا وتوترا, وحتى عندما يغطون بالنوم العميق, فهي بالنسبة لهم كما الأقنعة الرسمية المثبتة بالصمغ الصيني على وجوه الدمى الآدمية المشفرة.

وقفة:

لقد أسمعت لو ناديت حيا

ولكن لا حياة لمن تنادي

ولو نارا نفخت بها أضاءت

ولكن أنت تنفخ في رماد

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 27/أيلول/2010 - 17/شوال/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م