في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار إلى أزمة تشكيل الحكومة العراقية،
تخرج من العراق أرقام غريبة وعجيبة تزيد الأمر تعقيدا ً. القصة بدأت مع
طلبات تقدمت بها إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى الكونغرس
للحصول على ملياري دولار كتمويل لبرنامج تأهيل وتجهيز قوات الأمن
العراقية. إلا أن التقرير الأخير لمكتب المحاسب الحكومي الأمريكي كشف
أن العراق يمتلك فائضا ً من الأموال يقدر بـ (52.1) مليار دولار في
الميزانية. فما كان من وزير المالية العراقي السيد بيان جبر الزبيدي
إلا أن أقر بهذا الفائض مقدرا ً إياه بنحو(50) مليار دولار فقط.
إلا ان السيد الوزير أشار الى وجود اختلافات بين تفاصيل الارقام
الحقيقية وبين ما اورده مكتب المحاسبة الاميركي بشأن الفائض المالي.
فبحسب الزبيدي هناك (40 ) مليار دولار موجودة حاليا في احتياطي البنك
المركزي، وهي خارج تصرف الحكومة، الا ان هناك (10) مليارات دولار تحت
تصرف الحكومة وهو مبلغ عادة ما تتصرف به في بداية كل سنة مالية لتلافي
المشكلات المتعلقة بالموازنة الجديدة.
وبغض النظر عن دقة هذه الارقام فهي تثير العديد من التساؤلات حول
بعض الأعمال والقرارات التي اتخذتها وزارة المالية العراقية في الآونة
الأخيرة. ففي شباط من العام 2010 وافق صندوق النقد الدولي على منح
العراق قرضا ً بمبلغ (3.6 ) مليار دولار على مدى سنتي 2010 و2011.
وبتاريخ 24 شباط من العام 2010 تسلم العراق أول دفعة من هذا القرض وهي
بحدود (440) مليون دولار. في حين ينتظر العراق الدفعة الثانية والبالغة
(695) مليون دولار.
فإذا كان العراق يمتلك نحو(50) مليار دولار كفائض في الموازنة
فلماذا يقترض كل هذه المبالغ؟ وكيف يفسر عجز الموازنة للعام 2010
والمقدر بـ (19.6) مليار دولار في حين أن العراق يمتلك فائضا ً يفوق
هذا القدر من العجز بكثير.
لقد قدّرت موازنة العام 2010 على أساس سعر (62.5) دولار لبرميل
النفط الواحد المصدر للأسواق العالمية في حين أن الأسعار ومنذ شهر
تشرين الأول من العام 2009 تفوق هذا الرقم ولم تنخفض عن مستوى (70)
دولار للبرميل الواحد. أي أن الفجوة المالية التي قدّرت في عجز
الموازنة هي أقل من الارقام المذكورة آنفا ً. ناهيك عن أن العديد من
مجالس المحافظات خلال العام الفائت 2009 اشتكت من عدم صرف المخصصات
المالية المرصودة لها.
فإذا كانت الحكومة العراقية عاجزة عن صرف المبالغ التي يستحوذ عليها
البنك المركزي العراقي والبالغة ب (40) مليار دولار والمجالس المحلية
للمحافظات غير مستفيدة منها فلمن يتم إدخارها وحفظها في الخزينة؟
لقد أظهرت تقارير المنظمات الدولية وتقارير حكومية عراقية إلى أن
(23%) من الشعب العراقي يعيشون تحت خط الفقر أي أن قرابة السبعة ملايين
عراقي يعيشون على أقل من (66) دولارا للفرد شهريا ً. أما عن مشاريع
إعادة الإعمار فبحسب تقرير أمريكي نشر في أواخر شهر حزيران من العام
الجاري 2010 لا يمكن تحديد أوجه صرف أكثر من (95% ) من (9.1) مليار
دولار، كانت مخصصة لإعادة اعمار العراق.
ولا يبدو الأمر غريبا ً على الشعب العراقي الذي لم يلمس اي تحسن في
الخدمات الاساسية ومشاريع إعادة الإعمار. فالكهرباء والماء باتت من
الامور التي يحلم بها العراقيون. اما مدارس العراق فما تزال طينية في
العديد من الارياف في حين تصل نسبة الامية في صفوف العراقيين الذين
تتراوح أعمارهم بين عشرة واربعين عاما ً إلى (20%) أي أن واحد من أصل
كل خمسة عراقيين لا يعرف القراءة والكتابة.
أما وزارة التجارة العراقية وبحجة نقص التخصيصات المالية في موازنة
الدولة المخصصة للوزارة سنويا، فهي لم تتوان عن تقليص الحصة التموينية
للفرد العراقي الى خمس مفردات اساسية بعد أن كانت عشرا ً.
كل هذا يجري والعراق يمتلك في خزينته ما يفوق موازنات دول باسرها في
المنطقة. فإذا نظرنا إلى موازنة لبنان (13) مليار دولار وسوريا (16)
مليار دولار والأردن (7.7) مليار دولار خلال العام 2010 مجتمعة نجد
أنها تصل إلى (36.7) مليار دولار أي أنها لا تصل إلى حجم الفائض المودع
لدى البنك المركزي العراقي. بل أن دولة قطر التي تعتبر من أغنى دول
العالم لا تتعدى موازنتها (35.1) مليار دولار فقط. أي أن الفائض من
موازنة العراق المودع في حسابات المصرف المركزي العراقي يفوق ما خصصته
أغنى دول العالم لإدارة أمورها وحتى التحضير لاستضافة كأس العالم في
العام 2022.
والسؤال المطروح اليوم والذي ندع عهدة الإجابة عليه لدى وزارة
المالية في العراق هو لماذا يبقى ملايين العراقيين مشردين في الخارج
تتعطف عليهم الدول والمنظمات؟ ولماذا يبقى الإنسان العراقي محتاجا ً
لعطف الحكومة وشفقتها حتى تمنح كل أسرة عراقية متواجدة في سورية مثلا ً
مبلغ (200) دولار لا تغني ولا تسمن من جوع في حين أنهم يستحقون العيش
في بلدهم معززين مكرمين؟
وإلى متى يبقى العراقيون أغنياء مع وقف التنفيذ، فلا هم طالوا عنب
الشام ولا بلح اليمن؟ إن وزارة المالية ملزمة أمام مواطنيها بتقديم
إيضاحات حول هذه المبالغ الهائلة التي تحتفظ بها في حين تبقى أرض
العراق خالية من أية إنجازات تذكر. ويكفي العراق وشعبه مشاريع الورق
والرسومات التي ما زلنا نسمع عنها ولا نراها. حتى صدق علينا قول
الشاعر:
ياعودة للدار ما أقساها **** أسمع بغداد ولا أراها
إن ما يحز في الصدور هو أن يعرف المرء إمكانيات العراق وقدراته
الضخمة ولكنه يقف عاجزا ً عن الاستفادة منها حتى صار العراقيون أغنياء
تحت خط الفقر.
sadekalrikaby@gmail.com |