الشعراء والحياة

حيدر قاسم الحجامي

الشعر صناعة لفظية تستعملها جميع الامم على اختلافها، فالغرض الاصلي منه التأثير على النفوس لاثارة عواطفها، من سوء و ابتهاج واقدام وشجاعة او غضب او حقد او خوف وجبن او تهويل امر وتعظيمه او تحقير شيء وتوهينه او نحو ذلك من انفعالات النفس..1

ينتجُ الشاعر قيماً معرفية ذات انساق جمالية مبنية على لحظات الادهاش والتخيل والمتعة والمغايرة واللعب باللغة لكي يعطي انطباعاً اخر عن الحياة، لنفسهِ اولاً وللمتلقي الذي يجد ما كان يختلج مشاعره ُ الدفينة والذي لا يحسنُ التعبير عنه،يجدهُ ينبعث في تلك القصيدة وفي تلك الكلمات اللامألوفة داخل منظومة نثره ِ اليومي المتداول.

 الشعر جمال الكلمة ورقة المعنى ومتعة التأمل لمفردات الحياة المتنوعة، كشف عن تفاصيل صغيرة لكنها صادمة ممتعة، غالباً ما نجد في قراءة القصائد راحة للبال و سحر ُ يأخذ بلبانا، وتنفيس عن الهم، انها صنعة العباقرة كما كانت العرب تسميها، لكن ليس كل الشعر ينحاز دائماً الى النبل والجمال والقيم كما في التعريف المنطقي السابق، لانهُ امر مرتبط بالحالات النفسية التي تختلج الشاعر لكي يكتب نصاً شعرياً بغرض معين، يعني يبقى الشعر خاضعاً للشاعر مرتبطاً به ايما ارتباط لانه ُ عبارة عن دفق عاطفي متأثر بالواقع لا مفصول عنه.

يعرف الشعراء دائماً بالتذبذب في المواقف، لا تستطيع إن ترى شاعراً مواظباً على صنعته يبقى دائماً وابداً في مكان واحد او على موقف ثابت، البعض لا يفهم ذلك الا إن يصفهُ بعدم الثقة بالنفس او الانهزامية الكامنة في الذات الشاعرة، او حتى بالانتهازية في بعض الاحيان، البعض يفضل إن يقول إن الشعراء لا يعرفون معنى الصداقة ولا يقدرون ثمن أي شيء سوى ارضاء نزواتهم الخاصة ونزقهم.

الشعراء يحملون معهم اوراق وقصائد يتنقلون من مكان الى اخر، بالفعل انها الحقيقة، ولكنني اختلف في التفسير، انهم مهوسون فعلاً بالحب والمتعة والمغامرة يكرهون الثبات والبقاء في الامكان ذاتها يعشقون الحركة والبحث عن مساحات فارغة ليملؤها، يبحثون عن الازهار كبحث فراشات ملونة في حقول شاسعة، ارواحهم تحوم حول الحياة بحثاً على الازهار، كيما يجدو انفسهم في احضان وريقاتها الناعمة يمتصون ميسمها المليئ بالدهشة والشعر واللذة، انهم رواد وادً عميق خرافي اسمه ُ "عبقر"، يذهبون الى هناك كي يلقنهم شيطان الشعر اساطيره ووساوسه كما تقول الاسطورة العربية.

 إن الحياة بلا معنى دون تلك الهمسات الرهيبة، بعضهم "مزاجي " حد اللعنة، لذا فهو لا يقيم وزناً لشيء سوى لمشاعره واحساسيه، لا يعبأ لشيء سوى لشعره وكلماته وتأملاتهِ، ولكنها هي حاسته السادسة اقصد تلك " المزاجية المفرطة" هي من تقوده الى بذل كل هذا الجهد المضني في كتابة قصيدة ما دونما إن يجد نفسه متعباً او مرهقاً او يشعر بالعزلة عن عالمه المتحرك كرمال صحراء الربع الخالي، بل تجده في متعة كبيرة تعتري وجهه، وهو ينتصر في افراغ شحناته العاطفية الجياشة بكتابة قصيدة ما.

البعض يسميها لعنة الشعر، ويتطرف البعض ليقول إنها علة الشعر وداء يصيب الروح فيفتقُ فيها جروحاً تظل ُ ندية بالبوح مدى طويل.

 اتسأل كما هي عادتي ليتنا حصلنا على دماغ المتنبي ووضعناه في اجهزة التشريح و الكشف والفحص هل تختلف خلاياه الدماغية عن الاخرين، ليتنا اكتشفنا هذا السر العميق في مدى تفكيره وعمق معرفتهِ لاسرار الحياة، وعرفنا سبب هذه النرجسية العالية التي تطوق هذا الشاعر العظيم، كيف كان ينظر الى خصوماته المتعددة، وكيف ينظر الى تبدلات مواقفه المستمرة فمن المدح والاطراء ينقلبُ الى الذم والهجاء اللاذع، كما يسجل لنا التأريخ الشعري الحافل لهذا الاسطورة الشعرية، التحولات الكبيرة في حياته تجعل الباحث يسأل: لماذا كل هذا التحول؟ وليتنا فعلنا الشيء ذاته مع كل الشعراء العباقرة في تاريخنا الشعري الحافل، هل سنكتشف شيئاً مغايراً في خلايا عقولهم عن خلايا الناس العاديين، اجزم بصحة هذا الطرح،على الاقل من وجة نظر ادبية.

نفعل هذا كي نجيب عن فضولنا الكبير في الكشف عن رغبة الشعراء الكبيرة في التبدل والتذبذب في المواقف كما يسميها البعض، الى الحد الذي دفع البعض الى التحذير من صداقة الشعراء ومرافقتهم !

الجميل في الشعراء انهم يعشقون الحياة حتى وان طغت لغة التشاؤم والهم والالم والمعاناة، فمثلاً السياب الشاعر المرهف الذي تفنن في ايقاظ مشاعر الخوف والالم والتنظير للموت وعرف بهذه الصفات الشعرية حتى اقترنت بأسمه ِ، نجدهُ في مواطن كثيرة يكتبُ عن حبه وتعلقهِ بالحياة والامل بلغة مفرحة ومملؤة بالتفاؤل، وهذا نجده في اغلب نتاج الشعراء من كل العصور والدهور، فهذا ابو العتاهية الشاعر العباسي الكبير الذي ملئ الدنيا شعراً وشغلها معرفة وادباً، نجده في اخر لحظات حياته يطلب الى إن يسمع شعراً ويطرب لصوت شجي كصوت مخارق ابي الهنا،فقد أخبر الأخفش عن ثعلب عن عمر بن شبة عن مخارق أبي المهنا، قال: دخلت على أبي العتاهية في مرضته التي مات فيها، فلما رآني هش لي وقال: ادن مني بأبي أنت وأمي فدنوت منه وقلت له: ما تحب؟ قال: احب إن اسمع منك: الخفيف.

احمد قال لي ولم يدر ما بي * أتحب الغداة عتبة حقا

فتنفست ثم قلت نعم حبا * جرى في العروق عرقا فعرقا

لو تبينت ما يجن فؤادي * لرأيت الفؤاد قرحا تفقا

ليتني مت فاسترحت من الح * ب فإني ما عشت منه ملقى

قال: فغنيته، فقال: أراني كأني قد حييت، واستعاده دفعات فأعدته عليه. فقال: انصرف راشدا واتني في غد فان لم أرك مت. فلم يزل ذلك دأبه إلى اليوم الرابع فشغلت عنه فمات في ذلك اليوم.2

تبقى روح الشاعر ممسكة بطرف لا مرئي من الحياة حتى وان كان ينزعُ انفاسه منها نزعاً، الا انه يحبها ويعشق جمالها لانها بالنسبة له مدى طويل واشراقة امل، الشعراء اكثر حباً للحياة واعمق الناس غوراً في تفصيلها ربما هذه علة تعلقهم بها ورغم إن دورة الزمن تقهر حبهم ابداً ودوماً الا انهم سيظلون صناع ماهرون للحياة.

...............................................

الهوامش:

1- المنطق للشيخ محمد رضا المظفر

2-الامالي للزجاجي ص 80

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 18/أيلول/2010 - 8/شوال/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م