المتتبع للشأن العراقي يجد أن التناقضات قد أضحت السمة البارزة
للمجتمع العراقي.
التدخل العسكري الأمريكي، والنفوذ السياسي لدول الجوار من جهة،
وتطاحنات الساسة ورؤساء العشائر، والعمليات الإرهابية شبه اليومية
لتنظيمي القاعدة والبعث من جهة أخرى، قد أوجدت جميعها أزمة فكرية
وسلوكية وحالة من الرعب الاجتماعي، وانقسامًا حادًا بين مختلف طبقات
وشرائح المجتمع الذي طالما عُرِف في السابق بالمجتمع المتجانس
والمتماسك.
يوم الأربعاء المصادف 25 من الشهر الماضي كنا مع مشهد من مشاهد
الرعب في العراق، الذي عرف بالأربعاء الدامي.
وقد صادف في نفس اليوم أن نشرت نتائج استطلاعٍِ للرأي أجرته (شركة
الشرق للبحوث)، وأظهرت انقساماً واضحاً بين العراقيين حول انسحاب الجيش
الأمريكي، إذ اعتبر غالبية المستطلعين أن الوقت غير مناسب لهذا
الانسحاب. ووفقاً للاستطلاع فقد رفض 53 بالمائة انسحاب الجيش الأمريكي،
بينما وافق 46 بالمائة على ذلك. وفي الوقت الذي اعتبر 60 بالمائة أن
الوقت غير مناسب لهذا الانسحاب، رأى 40 بالمائة أن الوقت مناسب.
الكثيرون احتاروا في تحديد موقفهم من الانسحاب التام للقوات
الأمريكية بحلول نهاية 2011.. هذا الانقسام مرده عوامل داخلية وأخرى
خارجية. بالنسبة للعوامل الداخلية فقد دلت الأحداث بأن ما وُصِف به
المجتمع العراقي من تماسك وتجانس كان مبالغاً فيه إلى حد كبير،
فالمعارك الدموية التي جرت بين الطوائف والعشائر، وحتى بين أبناء
المحلة الواحدة، دلت على أن المجتمع كان يمر بمرحلة هدنة هشة في
المرحلة السابقة.
وقد عززت الممارسات الطائفية والعنصرية للنظام السابق الانقسام بين
أبناء المجتمع الواحد؛ ما أشعل لهيب الحقد والكراهية والانتقام، فما إن
سقط رأس الفتنة (صدام حسين) بالفعل الأمريكي حتى كشف بعض قادة الطوائف
والعشائر والمذاهب عن وجوههم الحقيقية بحثاً عن مصالح شخصية أو فئوية
أو الطائفية. ومن أجل تثبيت وجودهم؛ لم يتوانوا عن الدخول في معارك
وعمليات الثأر والانتقام.
والاختلاف اليوم حول تشكيل الحكومة في بغداد يعتبر أحد مظاهر هذا
التناقض والانقسام في هذا المجتمع.
وأما العوامل الخارجية، فهناك الكثيرون في داخل العراق وخارجه، يرون
في التدخلات الخارجية العامل الأساس للفرقة والاختلاف والنزاعات
الطائفية والأثنية في العراق. ويرمون بجام غضبهم على المحتل الأمريكي
الذي لعب الدور الأكبر في خلق الشرخ السياسي والاجتماعي والمذهبي في
العراق.
إنني قد اختلف قليلاً مع أصحاب هذا الرأي، واتفق مع أصحاب الرأي
الأول الذين يعتقدون أن الفرقة والانقسام المجتمعي كان موجوداً قبل
دخول المحتلين، لكنه كان مستتراً وغير قادر على إبراز نفسه بسبب وجود
نظام قمعي قادر على إشعال الفتنة وإخمادها بكل أنواع المكر والخداع.
لقد كان الانقسام والتمايز في المجتمع العراقي أشبه بالنار تحت الرماد.
ولا شك أن للأمريكان وعناصر القاعدة، وفلول حزب البعث، دورًا مؤثرًا في
بروز الخلاف الطائفي والمذهبي والعرقي المستتر، وقد ظهر جلياً في شكل
مواجهات عسكرية حيناً، والتخندق الطائفي والحزبي والعشائري حيناً آخر.
المستفيدون من وجود الجيش الأمريكي يطالبون ببقائه لفترة أطول،
والمتضررون يطالبونه بالانسحاب، إما من منطلق المصلحة الوطنية والقومية
والدينية، وإما لاعتقادهم أن الانسحاب سوف يخلى لهم الساحة للانتقام من
خصومهم عملاء المحتل الأمريكي. وليس غريباً أن يطالب طارق عزيز من سجنه
البيت الأبيض بنجدة بلده الذي شارك بنفسه ورفاقه البعثيين في تدميره،
نراه يخاطب الأمريكان بقوله: “لا تتركوا العراق للذئاب”.
بين هذا الرأي المهادن للمحتل، وذاك المعادي له، يستمر نزف دماء
أبناء العراق الأبرياء على مذبح الخلاف والاختلاف الطائفي والعرقي
والسياسي، وتصبح أرض العراق مستباحة من قبل الدول الغربية، والجوار
العراقي، والشبكات الإجرامية، وفلول الإرهاب. |