إن نوع الشعور الذي تشعر به تجاه القرآن الكريم، سيحدد نوع علاقتك
به، فإن الشعور أو الاحساس هو جانب فطري أودعه الله تعالى في الإنسان
لكي يستفيد منه في سبيل الخير والصلاح، فأنت مطالب بأن تأكل الطعام
الحلال الطيب، وقد أودع الله فيك الشعور بالجوع الذي يجذبك نحو الطعام
الذي يقوم به بدنك، ومضافاً إلى ذلك سوّغ لك أن تجوّد الطعام وتتفنن
فيه، ليخرج بمذاقات مختلفة وجذابة لتستشعر لذتها وأنت تأكل طعامك
الحلال الطيب. وهكذا سائر الحاجات الأساسية للإنسان، كالزواج والسكن
واللباس والصديق والحديث.
وعلاقتك بالقرآن الكريم لا تخرج عن هذه القاعدة، بل تتعمق، وتتجلى
بشكل واضح في نوع علاقتك به، فكلما ازاددت أهمية الشيء بالنسبة إليك،
تزداد ضرورة خلق الشعور الحسن والاحساس الإيجابي تجاهه، فالقرآن الكريم
هو الذي (يهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) في كل اتجاهات الحياة، وهو
المنقذ، والأساس في بناء الأفكار والمسارات، لذا فمن الضروري أن نواجه
أنفسنا بكل صراحة بهذا التساؤل:
هل آنس أنا بالقرآن الكريم؟ وهل هناك انجذاب نفسي وشوق يأخذني
للقرآن في تلاوته وتدبر آياته؟
إذا لاحظنا كلمات المعصومين في هذا الاتجاه، نجد أنهم يظهرون حالة
الأنس بالقرآن، وحالة الشوق إليه، بكل وضوح، ويعبر الإمام زين العابدين
(ع) بتعبير يثير فينا البحث والسؤال عن سر تلك العلاقة المحببة
والمؤنسة مع القرآن، ويقول: (لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشتُ
بعد أن يكون القرآن معي). إن الإمام يرجع تفكيرنا إلى واقعنا، كيف أننا
نأنس بالأصدقاء وكيف يأنس الحبيب بحبيبه، كل المحبين يستشعرون تلك
الأحاسيس الجاذبة التي تجعلهم يعشقون ملازمة محبوبهم، وكيف أن الإنسان
إذا فقد ذلك الأنيس والحبيب تصيبه الوحشة، أمام هذا الإحساس الفطري،
فإن علاقة الإمام مع القرآن الكريم هي فوق كل ذلك الشعور، فهو يستغني
عن كل الناس إن كان القرآن معه، فهو يبدد وحشته ويملئ قلبه أنساً.
وكلمات المعصومين (ع) تشير دائماً إلى ذلك البعد النفسي الذي يشكل
الجاذبية والأنس بالقرآن، وهذه خاصية موجودة حقاً في آيات الذكر
الحكيم، ولا نحتاج أن نتكلفها أو نتصنعها أو نستوردها من خارج القرآن،
فما علينا إلا أن نستكشفها، وننفتح عليها بوعي، فكما يقول الإمام
الصادق (ع) عن القرآن: (لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه).. فالعجائب
متوالية، لا يمكن أن نحصيها، والغرائب لا يغير من غرابتها تجدد الزمان،
ويقول الإمام علي (ع) عن صفة القرآن: (جعله الله ريّاً لعطش العلماء،
وربيعاً لقلوب الفقهاء)، يمكن أن نستوعب هذه المعاني من خلال المشاعر
التي تصيبنا في الواقع، فما الذي يمثله الإرتواء للعطشان في صيف قائض؟
وما الذي يمثله الربيع بنظارته وبهجة أزهاره للقلوب؟ ذلك الشعور الجميل
هو ما ينبغي أن يتكوّن بداخلنا تجاه القرآن..
ولكي نحصل على الأنس بالقرآن الكريم وتتفتح بآياته قلوبنا لتعيش
ربيعها الدائم، ينبغي أن ننظر إلى آيات القرآن على أنها آيات الحياة
بكل تفاصيلها العجيبة وكل غرائبها المدهشة، وكل أسرارها المثيرة، وكل
تموجاتها وتغيراتها التي تتمازج مع حياتنا، فالقرآن الكريم يفسر لنا
الحياة بكل ما تستوعب من حركة وإثارة وتجدد، فلا نتعامل معه بشكل معجمي
جامد لا حراك فيه، فإن كان القرآن للحياة، والحياة فيها من الحركة
والتغير والمفاجئة والإثارة ما يكفي لتأخذ باللباب، وفيها ما يكفي
لتخلق مشاعر الإنس الذي يؤدي إلى الإلتصاق به والتدبر في آياته من أجل
وعي بصائره، ويؤكد على هذه الحقيقة الإمام الرضا (ع)، بقوله عن القرآن:
(فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة).
www.mosawy.org |