القضاء المستقل والتجاذبات السياسية

القاضي سالم روضان الموسوي

تتحقق نهضة الأمة بتظافر جهود أبنائها في رسم ملامح وطريق عملية النهوض الشاملة، التي تشمل جميع نواحي الحياة، والأحداث التي مر بها العراق خلال الفترة التي تلت أحداث عام 2003 وحتى الفترة التي سبقتها منذ تأسيس الدولة العراقية، قد عانى فيها من تقلبات سياسية واقتصادية واجتماعية مثلما عانى من تعدد رؤى وأيدلوجيات السلطات القابضة على زمام الأمور ومقاليدها في البلد.

 ولا أكون مغالي في القول إن زعمت بان جميع من تولى السلطة في العراق منذ التأسيس كان يسعى إلى التفرد بالقرار والهيمنة على مقدرات الأمة، وبمسميات وشعارات متعددة ليس لها سوى العناوين، والقضاء العراقي هو جزء من منظومة الدولة العراقية التي كانت تسير الأمور، وواحدة من آليات السلطات الحاكمة آنذاك، وأصابه العوار مثلما أصاب سائر منظومة الدولة العراقية، لأنه كان جزء من السلطة التنفيذية من خلال ارتباطه وتبعيته إلى وزارة العدل، وبعد عام 2003 تشكل مجلس القضاء الأعلى بموجب أمر سلطة الائتلاف المؤقتة رقم (35) في 18/9/2003 وأصبح كيان مستقل بذاته في جسم الدولة العراقية وتخلص من هيمنة السلطة التنفيذية ونال استقلاله الإداري والمالي والفني.

 ومن ذلك الحين بدأ العمل في تعزيز هذه الاستقلالية بكل الاتجاهات سواء في البنى التحتية او الموارد البشرية، كذلك مواكبة التطور في علم القانون وفقه القضاء والانفتاح على التجارب العالمية من خلال البعثات التي أرسل فيها اغلب القضاة العاملين فيه إلى الدول الأوربية أو العربية، إلا إن أهم دعامة لتعزيز استقلال القضاء هو وجود التشريع الذي يصون هذه الاستقلالية ويحميها من تدخل السلطات الأخرى وعلى وجه الخصوص السلطة التنفيذية، التي ما انفكت تصارع في مصادرة هذه الاستقلالية وأصبح ذلك عنوان أزلي بين السلطتين التنفيذية والقضائية، ليس على مستوى العراق بل في كل الأنظمة العالمية، كما إن وجود تشريع محكم يتضمن آليات العمل القضائي، سيعزز من استقلال القاضي في داخل المؤسسة القضائية.

 والحاجة إلى هذا التشريع ليس ترفا ننشده بل هو حاجة ضرورية، لان القضاء يعمل الآن في ظل قوانين كانت قد صدرت في ظل أنظمة ذات طابع شمولي وديكتاتوري، فيحصل التقاطع أحيانا بينها وبين المبادئ الدستورية التي وردت في دستور العراق لعام 2005، والإدارة المشرفة على الهيئة القضائية الحالية سعت إلى إصدار مثل هكذا تشريع، وتم رفع عدة مشاريع قوانين تنظم العمل القضائي سواء القضاء العادي أو القضاء الدستوري، وأرسلت مشاريع القوانين تلك إلى مجلس النواب وبعضها تمت مناقشته ووصل إلى مرحلة التصويت، إلا أن السلطة التنفيذية ممثلة بالأمانة العامة لمجلس الوزراء قامت بسحب المشروع دون أن تعطي أي مبرر لذلك، وبقى الأمر على ما هو عليه حتى الآن.

 والأمر لا يقتصر على قوانين التنظيم القضائي أو مجلس القضاء الأعلى أو المحكمة الاتحادية العليا، بل القضاء بحاجة إلى إعادة النظر في الكثير من التشريعات النافذة التي تفسح المجال إلى السلطة التنفيذية في التدخل في العمل القضائي مثل قانون أصول المحاكمات الجزائية في المادة 136 منه التي أصبحت أهم منفذ لتهرب المفسدين من قبضة العدالة، كذلك بعض القوانين التي أصبحت لا تواكب تطور العصر مثل قوانين الإثبات او القانون المدني وقانون الأحوال الشخصية وقانون التجارة وغيره من القوانين.

 ومجلس القضاء سعى دائما وباستمرار إلى تفعيل الطلب من مجلس النواب عبر المنافذ الدستورية في إصدار هذه القوانين من اجل أن يتكامل العمل القضائي إلا انه لم يجد إذناً صاغية وكان الجميع منهمك بالتجاذبات الفئوية أو الطائفية وعلى وفق ما كان عليه المشهد السياسي أبان فترة انعقاد مجلس النواب السابق، وبعد انتهاء دورته وإجراء انتخابات مجلس النواب الجديد، تفاقمت أزمة تشكيل الحكومة ولم ترى النور حتى الآن ومازال مستقبلها غير واضح المعالم، واشتعل أوار المعارك الخطابية بين الكتل الفائز والخاسرة على حد سواء وبدأت تظهر إلى العلن الشعارات والمهاترات السياسية والكل ينادي بإنقاذ العراق وكأنهم لم يكونوا في سدة الحكم منذ عام 2003.

 ومن بين هذه التجاذبات قرأت بعض الأوراق التي يدعي البعض إنها خطة العمل للإنقاذ وعلى وفق ما يزعمون، ومن بين ما اشر لهم بأنهم سيعملون على إصلاح النظام القضائي الذي كالوا له شتى أصناف التهم، فعندما يحتكمون إليه بخلاف بينهم تجد من لم يصدر القرار على هواه يطعن باستقلال القضاء وعندما يأتي القرار على وفق مطلبه يتغنى بنزاهته وعدالته، ويزعمون بان طريقهم في الإصلاح بانهم سيصدورن قوانين تنظم العمل القضائي، وكأن الأمر متروك وسائب إلى حين وصولهم إلى سدة الحكم، ونسوا او تناسوا متعمدين إن المؤسسة القضائية عملت ومن اليوم الأول لنيل القضاء لاستقلاله على استصدار القوانين التي تمنحه السبيل في حماية هذا الاستقلال الذي يعد حق من حقوق المواطن العراقي في وجود قضاء مستقل.

 لكن هذه التجاذبات السياسية ما هي إلا تعمية للرؤى وتسطيح للأفكار، وأنا ادعوا كل الكتل السياسية إلى الابتعاد عن جعل القضاء بضاعتهم التي يروجون بها من اجل الوصول إلى سدة الحكم، وان يتعاونوا معه من اجل صيانة استقلال القضاء ليس لأنه سلطة مستقلة فحسب، وإنما لتعلقه بحق من حقوق الإنسان فهو ملاذ المظلوم من جور الظالم ويد الأمة التي تقتص من كل جاني ومتجبر على وفق مقتضيات القانون.

وان ما يفرح القلب أن نجد من يعمل على تقدم البلد واستقراره بنوايا صادقة، لكن علي من يدعي ذلك أن يشرك في عمله من أصحاب الاختصاص حتى يطلع على خفايا الأمور التي قد تكون خافية عليه بحكم عدم اختصاصه، لان في ذلك الأمر مكسب في الوصول إلى نتائج ناجحة في معالجة الخلل إن وجد وهو أيضا تجسيد لمبدأ التكنوقراط واحترام الاختصاص والابتعاد عن الفردية والشمولية التي لم يجني منها العراق سوى الوصول إلى أن يصبح بلد محتل.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 7/أيلول/2010 - 27/رمضان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م