تندرج الحاجة الى (مأسسة) الحياة اليوم ضمن ضرورة من ضروريات
الحداثة والتطور وجزء أساسيا من تركيبة التنافس العلمي والاقتصادي، من
حيث انها خلاصة ما توصل له علماء الإدارة والاجتماع في أفضل طرق لإدارة
الدول ونجاحها وديمومتها.
فالـ(مأسسة) ملازمة للتقدم والتطور والاستقرار السياسي والاقتصادي،
كحال المجتمع التقليدي التي تشكل العائلة نواة لتحقيق حالته الاجتماعية
ومن ثم تماسكه واستقراره وأمنه.
الإشكالية التي تعاني منها بعض الدول الناشئة التي قد تندرج تحت
مسمى الدولة الفاشلة ناتجة من فهم طبيعة المؤسسات التي تدير الحياة
وتنبثق منها فهي تضع تصورا إن المؤسسات الرسمية التابعة للحكومة فقط هي
التي تقومها وتؤسس نجاحها، وهذا وان كان ضروريا لفعل ذلك من حيث إدارة
أمور الدولة وتنفيذ قراراتها وتقديم خدماتها لمواطنيها وما الى غير ذلك
من الجوانب الفنية والإدارية.
إلا إن ما تنهض به الدول والمجتمعات عموما من مؤسسات لا نقصد بها
المؤسسات الرسمية الخاضعة للحكومات والتي يعبر عنها في المصطلح الإداري
بالدوائر العامة, بل إن القضية ترتقي الى وجود مؤسسات غير رسمية تتمتع
بالاستقلالية وتحقق استقرار الدولة والدفاع عن مصالح الافراد والجماعات
العامة حالة من حيث الرقابة والمحاسبة، والمشاركة في رسم سياسة البلاد
بالتعاون مع الحكومة المنتخبة وهي غير خاضعة لتوجيهات الحكومة بقدر
خضوعها لدستور البلاد، وللعرف الأخلاقي والاجتماعي لذلك البلد.
والمؤسسة هي كلمة ذات دلالات متشابكة، تأخذ في علم الاجتماع السياسي
تعريفات عدة فيعرفها (سي جي فريدريش) بأنها (مجموعة أعمال سياسية منظمة
و مستقرة تقوم بوظيفة أو تهدف إلى غاية داخل النظام السياسي) ويعرفها
(ماكس فيبر) بأنها (جماعات تصدر أو تتخذ إجراءاتها القانونية بنجاح
نسبي داخل إطار من العمل المحدد، لأولئك الذين يعملون بطريقة قابلة
للتحديد حسب معايير محددة).
أما التعريف الوظيفي فتوصف بأنها (كيان يقوم على مبدأ تنظيم معظم
نشاط أعضاء مجتمع أو جماعة حسب نموذج تنظيمي محدد مرتبط بشكل وثيق
بمشاكل أساسية أو بحاجات مجتمع أو اجتماعية أو بأحد أهدافها)، فيما نجد
مفهوم المؤسسة أيضا عند علماء (الاتنولوجيا) مثل مؤسسات القرابة و
المؤسسات الدينية... التي تحدد أشكال التنظيم الاجتماعي، وعند علماء
النفس الاجتماعي هو التبادل بين الأفراد الذي يخضع بشكل رئيسي لعلاقات
(مؤسسة) التي هي الإطار الطبيعي لهذا التبادل.
تتكون المؤسسات من مركبات عدة، منها: الأفراد، والمجموعات،
والتكنولوجيا، والهيكل التنظيمي الذي تمارس فيه بعض العمليات الإدارية
مثل (التخطيط، والتنظيم، والتوجيه، والرقابة، والاتصال، واتخاذ القرار،
والقيادة)، وتتضمن العمليات التنظيمية تفاعل الأجزاء وتداخلها لتحقيق
الأهداف ضمن بيئة أكبر، بعواملها السياسية والاقتصادية، والاجتماعية
والحضارية المختلفة، ومن الطبيعي أن تؤثر التنظيمات في هذه البيئات
وتتأثر بها إلى حد كبير, تحيط بالمؤسسة عدة عوامل تؤثر وتتأثر فيها
وتسمى بيئة المؤسسة، وتتكون من جزئين: (البيئة الداخلية للمؤسسة)
و(البيئة الخارجية للمؤسسة).
من أهم تلك المؤسسات المشتركة في بناء الحياة والدول ومراقبة
الحكومات تتمثل في:
1- المؤسسة الدينية: حيث تمثل ثقلا أساسيا في توجهات المجتمع
لمحاربة التسلط والاستبداد والدكتاتورية وصمام أمان للشعوب في إيجاد
حياة المؤسسات, بل إن السبب الأول لبعث الأنبياء والرسل هو لإقامة دولة
الحق والعدل والإنصاف بين بني البشر وهي لا تنتج الا بمؤسسات مختلفة
ومتنوعة وليست سلطة حديدية حاكمة, وغني عن البيان أن مسؤولية علماء
الدين، هي امتداد لخط المصلحين عبر التاريخ وهي مسؤولية كبيرة بالدفاع
عن حقوق البشرية وضمان دفع جور المتسلطين عنها.
ولعل اخطر ما نواجه اليوم هو محاولة البعض تغطية أنفسهم بلباس ديني
أو التسلق على أكتاف الأديان لمنح دكتاتورياتهم قدسية مزيفة تحيط بهم
وتمنع الناس عنهم لعلمهم بأهمية الدين وكرامته لدى الناس, وفي هذا
السياق يقول سماحة المرجع الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي
(الفارق بين الإنسان وسائر الكائنات هو عقلانيته وروحانية عمله,....
فما يحتاجه الإنسان كجزء للتركيبة الاجتماعية من الأمور نابعة من نفسه
وروحه كونه مرتبطا بالسماء كارتباطه بالأرض، فإذا تمكن من السير في
النسق الصحيح والارتباط بين هذه الجهات المختلفة, كان المجتمع مجتمعا
سليماً، والمجتمع المحتوي على مثل هذه اللبنات الإنسانية (المؤسسات)
مجتمعا سليما بينما إذا لم يتمكن من تصحيح مسيره كان مجتمعا غير سليم).
2- المؤسسة السياسية: يجمع فقهاء القانون الدستوري على ان الأحزاب
ضرورة من ضرورات بناء دولة المؤسسات, بحيث لا يمكن الادعاء بوجود
ديمقراطية حقيقية بدون وجود أحزاب تمارس نشاطها المعتاد, وتجرى
المنافسة السلمية والسليمة بين هذه الأحزاب من خلال صندوق الاقتراع
وبرامج العمل السياسي, حيث يرى الفيلسوف الفرنسي (بوردو) في إحدى
مؤلفاته، (أن من الطبيعي أن تكون السلطة من نصيب الغالب في صراع وتنافس
يعتمدان على تصويت الناخبين, ولكن هذا لا يعني إلغاء باقي الخطوط
السياسية), فارتباط هذه الأحزاب بقواعد شعبية ومساحات مجتمعية تؤمن عدم
التفرد بالسلطة من قبل جهة ما أو احتكارها لصالح فئة معينة بل إن مثل
هذه التعددية يجب أن تكون العين الأمينة لقواعدها الشعبية في متابعة
الأمور السياسية، لأننا نعرف أن الناس ليسوا بمستوى واحد من فهم العمل
السياسي وخاصة بسطاء المجتمع، ولذلك فلابد من وجود من يمثلهم في فهم
المعادلات السياسية والمراقبة بان لا تنتفخ الحكومات أكثر من حجمها
القانوني، لتتحول في لحظة ما الى دولة تابعة بجميع أجزائها الى مؤسسات
حكومية مسيرة بيد جهة واحدة سواء كانت شخصا أو حزبا.
3- المؤسسة القضائية: صمام الأمان الذي يجعل البلدان تعيش بطمأنينة
كبيرة كون وجوده يمثل حاجزا ورادعا لكل من يريد التعدي على حقوق
الأبرياء, وحمايتهم من جميع المجرمين سواء ممن ارتدوا لباس الدولة أو
من خارجها, عكس أن يكون مسيسا أو شكليا فانه لا يعدو أن يكون واجهة من
واجهات السلطة التنفيذية التي ترسم الشكل القانوني لما يريده الحاكم لا
غير, ولذا فان الدول المتحضرة تجعل القضاء في مصاف علوية الدستور بحيث
لا سلطة عليه إلا سلطة الدستور, وهو بدوره يملك قدرة دستورية واسعة
لردع كل من يريد التجرؤ على حقوق الناس او التسلط على البلاد والعباد
خصوصا بوجود قضاة يملكون شخصيات متجردة ذات قدرات قانونية وعلمية
وأخلاقية.
4- المؤسسة المدنية (منظمات المجتمع المدني): وجود مؤسسات المجتمع
المدني في أي بلد مؤشر على وجود حياة تعددية وديمقراطية, شريطة أن تكون
تلك المنظمات واقعية لا واجهة للسلطة الحاكمة او بوابات ظاهرية لمشاريع
سرية, ولأهمية ودور تلك المؤسسات فان الحكومات الشمولية تحاول قدر
الإمكان أما تغيبها أو تسييسها, فهي بمثابة العين المراقبة لنشاط وأداء
الحكومات ولا سلطة عليها سوى سلطة القانون والدستور الذي منحها حق
العمل الميداني, ومن ذلك يمكن القول بان لمنظمات المجتمع المدني القدرة
على إقامة دولة تتصف بالمؤسساتية فعلا في أي مجتمع إن عملت بسلطتها
الدستورية والمهنية, ويمكنها أيضا أن تكون رديفا مهما في انضباط الحياة
التعددية من جهة أخرى كون إن عدو المجتمع المدني ليس حرية الفرد ولا
حرية الحكومة المنضبطة، بل الحرية المنفلتة لأحدهما أو للاثنين معا.
5- المؤسسة الإعلامية (السلطة الرابعة): والتي بدت في الآونة
الأخيرة تتقدم بشكل مطرد نتيجة تطور وسائل الاتصال لتكون متغلغلة في
جميع مفاصل الحياة وممتدة الى ابعد مناطق العالم, هذا التطور ولد زخم
هائل للتأثير على المتلقي تمتاز به هذه السلطة عن باقي المجالات, لتجعل
من مادتها الإعلامية سلاح كبير فهي قادرة للوصول للمتلقي في أي موقع في
بيته أو مقر العمل, إن لسلطة الإعلام اليوم قدرة كبيرة في ضمان حقوق
وحريات الناس بوقوفها ضد من يحاول التسلط أو التفرد بالحكم, و بلا شك
فان من يمارس مثل هذا الدور هو الإعلام المهني المستقل, وإلا فان اغلب
الجهات الرسمية وشبه الرسمية تمتلك إعلاما خاصا بها أيضا إلا انه لا
يملك من الأمر شيء أكثر من تمجيدها وتجميل صورتها.
6- مؤسسة الرأي العام: من جانبه هو الأخر يتحمل مسؤولية مهمة في عدم
تسلط الاستبداديين على مقاليد الأمور وخصوصا الشعوب التي تتمتع بحرية
الانتخابات فهي قادرة على أن تكشف كل من ترى بان لديه قدرة نمو شخصية
(الدكتاتور) والتفرعن تحت أي مسمى وإيجاد الشخص الذي يرى إن قوته ناتجة
من قوة المجموع (أحزاب ومؤسسات دولة وقواعد شعبية) لا العكس, بحيث لا
يرى لنفسه الفضل على أيا منها في وجودها او ديمومتها، بل لابد من
استشعارها وإشعاره دائما بان لا قوة حقيقة إلا بمشاركة الجميع وان من
يفكر بأنه (الأوحد الأفضل) فعليه أن يهيئ نفسه للسقوط في منزلق الفشل,
وان القوة الحقيقة الناتجة من مؤسسات تسند وتبني الدول.
إن الأسس التي انطلقت منها الدول الناجحة لم تكن وليدة فكر
استبدادي او دكتاتوري لان اغلب الحضارات والانجازات شيدت بعقول جماعية
مشتركة ومؤسسات بحثية في الميادين المختلفة, وعلى هذا المنطلق فان
التوجه نحو دولة المؤسسات هو تأكيد لشراكة الإنسان ودفعه نحو التكامل
بإيجاد حياة المصالح والمنافع المشتركة العامة، وأن لا حياة منفردة
ومنعزلة عن الآخرين، بل إن الانفراد هو مقدمة للجمود والانعزال ومن ثم
الموت البطيء، وكل ذلك يلخص معنى مفهوم الدولة الفاشلة.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com |