فيلم القارئ... سلطة الجنس وسلطة المعرفة

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: في مسيرتها الطويلة قدمت السينما العالمية (أوربية وأمريكية) كثيرا من الأفلام التي طرحت عدة مسائل إنسانية ووجودية عميقة وتناولتها بإبداع فني راق ومؤثر، وكثيرا ما قدمت هذه السينما مراجعات عميقة لتاريخها وأبطالها وأحداثها.

فيلم القارئ the reader  واحد من هذه الأفلام التي ينظر من خلالها المجتمع الغربي إلى ذاته التاريخية بتساؤلات حول النازية وشرورها وآثامها من خلال ثنائية الجنس والمعرفة.

برلين 1995

يبدأ الفيلم بدخول الكاميرا على  صورة بيضة مسلوقة يحملها  الممثل الرئيسي رالف فينيس واسمه ( مايكل )  إلى المرأة التي قضّت ليلتها معه.. جميع الأشياء في شقته يغلب عليها اللون الأبيض الناصع، فنجان شاي ابيض وجهاز حاسوب ابيض، إضافة إلى الجدران البيضاء والأغطية والأبواب.

نيوستاد/ ألمانيا/ 1958

بطريقة فلاش باك يظهر احد القطارات الداخلية ومايكل احد ركابه..كان عمره خمسة عشر عاما، وكان يعاني من وعكة صحية تجعله يلجأ إلى إحدى العمارات حيث يجلس على دكت في مدخلها، تعود الممثلة الرئيسية كيت وينسلت ( هانا ) وهو اسمها في الفيلم، من عملها قاطعة تذاكر في شركة للقطارات، تكبره بأعوام كثيرة.

تفاجأ بوجوده وتغسل ما اتسخ من ارض المدخل بتقيئه... تساعده على النهوض وتسير معه محاولة إيصاله إلى منزله... يتوقف منتصف الطريق ويطلب منها ان تعود أدراجها فمنزلهم قريب ويستطيع الوصول اليه.

تقلق والدته عليه... تحضر اليه الطبيب الذي يطالب بالحجر عليه خوفا من ان يعدي الآخرين بمرضه..بعد ان تماثل للشفاء يذهب الى ( هانا ) حاملا باقة ورد ليشكرها على مساعدتها..

يدخل شقتها... تخبره إنها تريد ان تخرج معه لإيصاله إلى المنزل... يتلصص عليها وهي ترتدي ثيابها... تفاجئه متلبسا... يهرب من امامها.

يعود الى العمارة يوما آخر مارا من امامها... يصعد إلى شقتها مرتبكا... تعود لتجده واقفا عند الباب... تطلب منه ان يأتي بدلوي الماء من الاسفل... يجلب الفحم اليها ايضا... تحضّر له الحمام وتطلب منه ان يخلع ثيابه... فلا يمكن ان يعود بهذه الوساخة الى البيت... تسترق النظر اليه... يدخل الى حوض الاستحمام الابيض... يتسرب دفء الماء اليه ويزول ارتباكه... تحضر له المنشفة... تغطيه بها وتمسح على جسده... ولكنه عري خائف حزين... تسقط المنشفة... تحتضنه من الخلف... وتسأله: لهذا عدت إذا؟

 يلتفت اليها قائلا: أنت جميلة جدا... تقول: ما الذي تتحدث عنه؟ انظر الي ياولد.. يقبلها بسرعة... ببطء ايها الولد... ينامان سويا... دائما كانت تناديه ياولد.

يعود اليها مرة اخرى وصوت المعلم في المدرسة يرن في اذنيه (السرية فكرة مركزية في الادب الغربي)... يخبرها انه لم يستطع حتى القراءة بسبب مرضه... تباغت بهذه الجملة.

تسأله عن دراسته في المدرسة... يدرس اللاتينية... تطلب منه التحدث اليها باللاتينية... يسمعها بعضا مما يحفظه لهوميروس تقول: رائع... يجيبها: كيف تعرفين ذلك وانت لا تعرفين ماذا يعنيه؟

يقرأ لها باليونانية... تسأله هل تدرس الادب الالماني؟ يريها مسرحية (ايميليا غولاتي)... لغوثارد ايفرنسم.

يقول لها: يمكنك ان تقرأيها... تتهرب منه: أفضل ان اسمعها منك... ( تذمّر... لاشيء سوى التذمر..بالله عليك هل هناك أي شيء بالحياة يعمل؟ تخيلي ان الناس يحسدوننا).في لقاء آخر تسأله هل تحمل كتابا آخر؟ إنها الاوديسا لهوميروس... تخبره: سنغير ترتيب الامور... ستقرأ لي يا ولد... يأخذ بالقراءة (غني لي عن الانسان ايتها الملهمة).. تبكي..يقرأ لها نصا اخر.. تضحك.. يقرأ لها نصا اباحيا.. تشمئز... يقرأ لها قصصا مصورة.

صوته في خلفية الفيلم (لست خائفا من أي شيء... كلما عانيت كلما احببت اكثر... الخطر سيزيد حبي... يعطيه نكهة... انا الوحيد الذي تحتاجين اليه... تغادر الحياة بشكل اجمل من دخولك اليها...السماء ستستعيدك وتنظر اليك وتقول: شيء واحد يمكن ان يجعلك كاملا... وهذا الشيء هو الحب).

يخرجان في رحلة الى الريف..يجلسان الى الطاولة وتقدم لهما النادلة قائمة الطعام .. يرتسم على وجهها حزن مرير غامض.. آكل ما ستأكله أنت.

يذهبان الى الكنيسة..كانت هناك مجموعة من الاطفال تصدح بتراتيلها.. تجلس مفعمة بالطمأنينة وهي تستمع إلى هذه الأصوات.. يذهبان الى البحيرة.. هي تستحم وهو يجلس مراقبا لها ويكتب عنها شعرا.. تطلب ان تستمع له.

بعد ايام يخبرها مديرها انها حصلت على ترقية للعمل في المكتب... يعود إليها تلك الليلة حاملا كتاب (السيدة مع الكلب الصغير) لانطون تشيخوف... تلك كانت المرة الأخيرة التي ينامان فيها سوية.. فهي في صباح اليوم التالي تحزم حقائبها وترحل.

برلين 1995

نكتشف انه مطلق منذ سنوات طويلة ولديه ابنة جميلة في العشرين من عمرها..تعيده ابنته الى الواقع .. يكاشفها (لست منفتحا مع أي شخص.. ادرك اني كنت صعبا.. لم أكن منفتحا معك).

مدرسة هيدلبرغ للحقوق / 1966

صف فريد من سبعة طلاب.. هكذا اخبرهم البروفسور المشرف عليهم في دراستهم العليا.. يأخذهم للمحكمة للتدريب... يجلس منتظرا.. ينادى على المتهمات (هانا) واحدة من 6 نساء متهمات بتنفيذ أعمال الإبادة الجماعية بحق 300 امراة يهودية.

إنها الآن في الثالثة والأربعين من عمرها.. انضمت إلى الاستخبارات الألمانية عام 1943 حين كان عمرها 21 عاما.. عملت حارسة في احد المعتقلات النازية... تعترف بذنبها في اختيار من يجب ترحيلها الى المعتقل..يدور حوار بين البروفيسور ومايكل .. يقول البروفيسور (( المجتمعات تعتقد انها تسير وفق شيء اسمه الأخلاق .. ولكنها لا تفعل.. تسير وفق شيء اسمه القانون).

كانت هانا تختار النساء الشابات وتوفر لهن الطعام والمنام ثم تطلب منهن ان يقرأن لها بصوت مرتفع....(كنا نظن ان هذه الحارسة إلهة..حساسة أكثر.. إنسانية اكثر... ولكنها كانت تختار الضعيفات والمريضات) في العام 1944 ماتت نصف النساء في المسيرة فوق الجليد.. وصلنا الى إحدى الكنائس.. وقد اخذ الألمان بقصف الكنيسة لتشتعل فيها النيران.. الأبواب مغلقة.. كنا نطرق عليها بشدة.. لا احد يفتح لنا.. ماتت 300 امرأة يهودية )).. انه صوت الشاهدة الوحيدة التي نجت من الحريق.

(هذا لم يحدث للالمان.. هذا حدث لليهود.. كنا نعرف بذلك ولكننا سكتنا.. كان يجب ان نحاكم نحن ايضا) احد الطلاب مناقشا استاذه.

يخاطب مايكل (انت تنظر دائما الى تلك المراة..هل تعرف ما اريد فعله؟ اضع مسدسا في يدي واقتل تلك المراة.. اقتلهن جميعا).

يقدم القاضي تقريرا مكتوبا لهذه الحادثة من ارشيف المخابرات النازية.. انه وثيقة.. مكتوب بخط يدها كما تدعي بقية الحارسات.. تنكر ذلك.

يطلب منها القاضي عينة من خط يدها.. تشعر بالرعب.

يضع الحارس امامها ورقة شديدة البياض.. وقلما اسود.

(لا حاجة لذلك.. انا كتبت التقرير) لا تعترف بجهلها بالكتابة والقراءة.. يخبر أستاذه بهذه المعلومة..( انها تخجل من جهلها) يخبره استاذه (الصواب هو ما نفعله وليس ما نحسه).

يذهب لزيارتها في السجن.. يصل الى هناك لكنه يعود ادراجه.. وتبقى تنتظر مجيء الزائر الذي لايصل.

تستقبلها صيحات الضحايا في المحكمة: نازية.. عاهرة نازية.. تحكم عليها المحكمة بالسجن مدى الحياة.

نيوستاد / 1976

يرسل لها طردا الى السجن، جهاز تسجيل وأشرطة كاسيت سجل عليها بصوته الاوديسا لهوميروس اول كتاب قرأه لها (غني لي عن الرجل ايتها الملهمة) تنزل اغراضها البسيطة والتافهة وتضع تلك الاشرطة مكانها.. وتكر شحنات الطرود اليها.. (السيدة مع الكلب الصغير) وجميع الكتب التي قرأها لها تلك الايام.. قبل ساعات مطارحتها الغرام.. تذهب الى مكتبة السجن تطلب كتاب (السيدة مع الكلب الصغير) تتهيب من تقليب الصفحات.. ترافق كلمات الكتاب مع صوته وتؤشر عليها خطا.. تتعلم ان تكتب اسمها.. وتتعلم كتابة كلمات أخرى.. تكتب له اول كلماتها (شكرا على الطرد الاخير ياولد.. استمتعت به).. وتطلب منه ارسال المزيد.

يفاجأ.. يضع رسالتها في احد الادراج ويركله بقدمه وكانه يركل جميع ما ربط بينهما بعد ان تحررت من الجهل ومن سلطة المعرفة التيكان يمتلكها اتجاهها.

بعد 20 عاما

يتصلون به من السجن لإخباره انها ستخرج عن قريب ..(حين تخرج تحتاج الى عمل والى مكان تعيش فيه.. لا يمكنك ان تتخيل كم سيكون العالم مخيفا لها ..اذا لم تتحمل مسؤوليتها فليس لها مستقبل بالمرة).. كان ذلك صوت احدى المشرفات في السجن.

يذهب الى السجن.. يجلس امامها على مائدة الطعام.. (لقد كبرت يا ولد)

هل فكرت كثيرا بالماضي؟ ليس معي.. لقد اصبحت لدي مكتبة.

يشعر بها غير نادمة عما فعلته.. ولكنه شعور مخادع.. يخبرها انه حصل لها على عمل وعلى مكان تسكن فيه.. يودعها ببرود.

تحاصرها البرودة من كل جانب.. برودة السجن.. برودة المجهول من المستقبل القادم بعد اقل من 24 ساعة.. برودة مشاعره اتجاهها.. وبرودة الشيخوخة في الستين من عمرها.. في زنزانتها.. تضع مجموعة من الكتب على الطاولة تخلع حذاءها.. وتصعد على كومة الكتب منتحرة بانسانيتها العذبة والمعذبة والتي سيكتشفها متاخرا.

يعود الى السجن حاملا باقة ورد تشبه باقة الورد الاولى.. ياخذونه الى زنزانتها.. (تركت رسالة فيها وصيتها.. ساقرأ لك الجزء المتعلق بك) تتحدث معه تلك المشرفة (هناك مال في علبة الشاي الفارغة اعطيه لمايكل عليه ان يرسله مع 7 الاف مارك في المصرف الى ابنة المراة التي نجت من الحريق.. انه من اجلها .. هي من ستقرر ما ستفعله به.. وقولي لمايكل اني اسلم عليه).

يلتقي بابنة الناجية.. يحدثها عن (هانا) ووصيتها.. لا تمنحها الغفران.. يخرج لها العلبة التي احتفظت بالمال بداخلها.. تخبره انها كانت لديها علبة بحجم هذه لكنها ثمينة وتضع فيها اشياءها الحميمة.. لا تاخذ المال منه.. يقترح عليها ان يتبرع بالمال لمنظمة يهودية لمحو الامية. تحتفظ بالعلبة وتضعها بجانب صورة عائلتها.. لقد منحتها الغفران الذي تستحقه..

يأخذ ابنته لزيارة المقبرة التي دفنت فيها ..ويروي لها قصة المراة التي تركت اثرا كبيرا عليه.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 4/أيلول/2010 - 24/رمضان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م