"الأبارتهايد" الإسرائيلي

والدسترة البنيوية لكيان التمييز العنصري

ماجد الشّيخ

منذ أكثر من ستين عاما، والممارسات الاحتلالية الإسرائيلية، تحافظ على وتيرة تتصاعد بين الحين والآخر، ولكنها لا تتراجع؛ وهي تخطّ على الأرض أشد أنواع وأشكال عنصريتها التمييزية، الموجهة ضد كل من تبقى من مواطني الوطن الفلسطيني بعد نكبة عام 1948. وبرغم استمرار وتواصل مدن الداخل الفلسطيني في الجليل والمثلث والنقب، إلاّ أنها خضعت وتخضع لسياسات تضييق تمييزية، هدفت وتهدف إلى محاولة طرد المواطنين الفلسطينيين من داخلها؛ على ما يجري في عكا وحيفا ويافا والرملة وغيرها، وزرعها بمستوطنات وتجمعات يهودية، أثبتت الأيام أنها بمثابة الخنجر المسموم في ظهر أصحاب الأرض من أهل الوطن، في وقت يجري حرمانهم من إقامة مدن جديدة، أو حتى تطوير مدنهم الأصلية، أو الأحرى تجمعاتهم فيها، حتى وهم يتعرّضون لسياسات تمييز عنصرية وتطهير عرقي يتواصل حتى اليوم، ما ألغى ويلغي عمليا أي إمكانية بقيام أي نوع من أنواع المساواة بين السكان من اليهود، والفلسطينيين أصحاب الأرض والوطن الذي جرى احتلاله والاستيلاء عليه.

 وكان الكنيست بأغلبية أعضائه، قد أسقط مشروع قانون كان قد تقدم به عدد من النواب الفلسطينيين، نص على المساواة في تقسيم الأراضي بين اليهود والفلسطينيين، وتضمن السماح للمواطنين الفلسطينيين بإقامة مدن جديدة، في الوقت الذي تعمل حكومات الاحتلال على تشريع إقامة مدن وتجمعات إستيطانية جديدة حتى للمتدينين من اليهود (الحريديم) كمدينة حريش. ولم تلتفت لإقامة مدن النقب (أربعة مدن منذ عام 1948) إلا لكونها أرادت تجميع مواطني النقب فيها، بعد الاستيلاء على أراضيهم التي يملكونها ويجري الاستيلاء عليها بين الحين والآخر، عبر ما يسمى "الدوريات الخضراء" وجرافاتها التي ما تني تواصل هدمها لقرية العراقيب للمرة الثالثة كنموذج لهدم 45 قرية نقبية أخرى. فلم يكن هاجس الحكومات الإسرائيلية جميعها؛ تحقيق ولو حد أدنى من حلم المساواة المغيّب وغير القائم، بقدر ما كان كل ذلك يؤشر إلى الحد الأعلى من محاولات سلب الأراضي، ونزعها وانتزاعها من الفلاحين والبدو وإبعادهم عنها.

وحتى بين المواطنين الفلسطينيين أنفسهم، فإن حكومات الإحتلال مارست وتمارس المزيد من أشكال التمييز المزدوج والمضاعف، وهي تلجأ إلى منح بعض المواطنين من أبناء الطائفة الدرزية ومن البدو، قطع أراض محدودة للبناء عليها، وذلك بغية تشجيعهم على الخدمة في الجيش، في سياق تطبيقها لشعارها الدائم: أرض أكثر وعرب أقل.!

 لقد سبقت التطبيقات العنصرية وسلوكها التمييزي "قيام الدولة"، تلك التي لم تُقم أساسها النظري في الأصل، إلاّ على أسس عقيدية عنصرية، وحين قامت على الأرض؛ لم يكن باستطاعتها "إنجاز" أكثر مما أنجزته، فما استطاعت إقامة دولتها اليهودية النقية، كونها لم تستطع التخلص من كل أصحاب الأرض الأصليين، وفي هذه "الدولة" وفي الظروف التي نشأت في ظلها، لم يكن متاحا بالقطع إمكانية إقامة تطابق أو تماثل بين رؤيتها لذاتها؛ وما قام فعليا من بناء سياسي ودستوري بقي ناقصا، حتى وهي تحاول مطابقة سلوكها النظري، وتلك الممارسة التي حملت بذور التمييز العنصري بحق أبناء الشعب الفلسطيني.

 وها هي إسرائيل في ظل ائتلافها الحكومي اليميني المتطرف، تمضي إلى ابتكار المزيد من التشريعات والقوانين الهادفة إلى تثبيت سياسات تمييزية، عبر قوننتها أو إضفاء المزيد من "شرعية التشريع" عليها، وإدراجها في سياق "سياسة دولة" تمنهج تمييزها العنصري وتصوّبه في اتجاه أبناء الشعب الفلسطيني؛ النقيض التاريخي للوجود الاحتلالي الصهيوني لأرض الوطن الفلسطيني.

  وبحسب الائتلاف المناهض للعنصرية في تقرير له نشر مؤخرا، فإن الكنيست الحالي هو الأكثر عنصرية منذ إنشائه، حيث زادت القوانين العنصرية التي تنتقص من حق الأقلية الفلسطينية، عن مجموع القوانين العنصرية السابقة بنسبة 70 بالمئة. وهي قوانين هدفت وتهدف لتحجيم دور الفلسطينيين في القطاع المدني. ففي عام 2008 قدم للكنيست أحد عشر قانونا، وفي عام 2009 إثنا عشر قانونا، وفي العام الجاري هناك واحد وعشرون قانونا تحتوي جميعها على بنود عنصرية ضد المواطنين الفلسطينيين. يقف وراءها أعضاء من اليمين المتطرف، وتتضمن الفصل بين اليهود والمواطنين الفلسطينيين، وتصل إلى حد المناداة بطرد أصحاب الأرض الأصليين من وطنهم.

 بل وصلت الوقاحة ببعض أعضاء اليمين المتطرف، للتقدم من الكنيست بقانون أسموه "قانون طرد الغزاة"، وهو خاص بمواطني النقب من البدو الذين تواجد أجدادهم على هذه الأرض منذ آلاف السنين.

 وتشمل القوانين السابقة؛ الحكم بالسجن لمدة عام على كل من يشتكي من الظلم والتمييز، حيث أجيز هذا القانون بالقراءة الأولى، بالإضافة إلى تحريم ومعاقبة مستخدمي تعبير النكبة. كما وأجيز بالقراءة الأولى ذلك القانون الذي قدمه وزير المواصلات إسرائيل كاتس، والقاضي بمحو الأسماء والشوارع الفلسطينية واستبدالها بأسماء عبرية.

 لكن أخطر ما أقدم عليه الكنيست الحالي الذي فازت بثقته حكومة اليمين القومي والديني المتطرف، هو المصادقة على قانون يتيح للحكومة نهب أملاك اللاجئين الفلسطينيين، حين سمح بخصخصة واسعة النطاق لما يعرف بـ "أراضي الدولة"، ويمكّن الصندوق القومي لإسرائيل (الكيرن كيمييت) شراء أراضي اللاجئين الفلسطينيين بموجب ما يسمى "قانون أملاك الغائبين" ومن ثم بيعها لليهود.

 وهذا القانون العنصري يتناقض وكل المواثيق الدولية المناهضة للعنصرية، خاصة وأنه نص على أن السكن أو شراء الأرض في القرى الزراعية والقرى الصغيرة عموما، يتم بموافقة لجان قبول منبثقة من الوكالة اليهودية والمؤتمر الصهيوني العالمي، مما يعني حرمان أهل البلاد الأصليين من السكن في مناطق واسعة من أرض وطنهم، وهذا يكرّس الواقع القائم، حيث 94 بالمئة من الأراضي هي أراضي دولة (مصادرة أو جرى الاستيلاء عليها بالقوة وبالتزوير، وهي خاصة باللاجئين) يجري تأجيرها لفترات طويلة (49 أو 99 عاما ولليهود فقط) والباقي أراضي خاصة: 3 بالمئة لمواطنين فلسطينيين و3 بالمئة لمهاجرين يهود.

وقد أكد د. أحمد الطيبي رئيس الحركة العربية للتغيير، وهو نائب رئيس الكنيست الحالي، أن هناك ما لا يقل عن 40 قانونا سارية المفعول، تميّز ضد فلسطينيي العام 1948 في الجليل والمثلث والنقب، وتعتبر قوانين عنصرية وفقا للمعايير القانونية الدولية. وفي تمييز تام ومطلق، تدير إسرائيل ثلاثة أنظمة حكم، هي وفقا للطيبي: نظام حكم ديمقراطي لنحو 80 بالمئة من السكان اليهود، وتلك "ديمقراطية عرقية". ونظام حكم قائم على التمييز العنصري موجه ضد 20 بالمئة من السكان، هم المواطنون الفلسطينيون الذين بقوا في أرض وطنهم، بعد نكبة تشريد شعبهم في العام 1948. أما النظام الثالث فهو الاحتلال، حيث يمارس الإسرائيليون في ظله تمييزا عنصريا مماثلا لنظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا، ضد الفلسطينيين الذين خضعوا للاحتلال منذ العام 1967.

 وفي ثنايا القوانين والتشريعات الأساسية، التي يجري السباق لإقرارها، يمضي الكنيست بأغلبية نوابه من اليمين القومي والديني المتطرف، نحو تحقيق هدف "تهويد الدولة"، بدءا من تجريم إحياء ذكرى النكبة، وعبرنة اللغة، وفرض التدريس الإلزامي للنشيد الإسرائيلي في المدارس الفلسطينية، وتطبيق إطلاق أسماء عبرية بدل العربية على المدن والبلدات الفلسطينية، وأداء قسم الولاء لإسرائيل بوصفها "دولة للشعب اليهودي" أو "دولة يهودية". وأحدث هذه الإجراءات والقوانين العنصرية هو ما اقترحه وزير الخارجية العنصري أفيغدور ليبرمان، بإدخال تعديل على قواعد التعيين في هذه الوزارة، وفي كل المؤسسات والوزارات، من شأنه منع الغالبية العظمى من فلسطينيي الجليل والمثلث والنقب من الانخراط في السلك الدبلوماسي، أو في الوظائف الحكومية، كونهم لا يؤدون الخدمة العسكرية. وهو ما أقرته الحكومة يوم الحادي عشر من تموز (يوليو) الماضي.

لكن الأخطر في نظر خبير القانون الدولي د. حنا عيسى، هو ما أضحى يتبلور في تشريعات أساسية ترمي للانتقال نحو مرحلة جديدة، فيها تتأهل إسرائيل لأن تكون أكثر استعدادا للإعلان عن كون التمييز جزءا من بنائها الدستوري، وقد تمثل هذا في قوانين وتشريعات أساسية، مثل قانون العودة (1952) قانون الخدمات الدينية اليهودية (1971) قانون الخدمة العسكرية (1986) قانون الحاضر – الغائب وقانون المصادرة من أجل الصالح العام، مشروع قانون المواطنة، (تعديل تصريح الولاء 2009)، مشروع قانون سجل السكان (تعديل – تصريح الولاء للدولة والعلم والنشيد الوطني 2009)، مشروع قانون يوم الاستقلال (تعديل – حظر إحياء يوم الاستقلال أو يوم إقامة دولة إسرائيل كيوم حداد) أي قانون النكبة. ومشروع القانون الأساس للكنيست (تعديل تصريح ولاء عضو الكنيست)، تصريح ولاء للدولة كدولة يهودية وصهيونية وديمقراطية (!).

 ولأن التمييز جزء من بنائها السياسي والثقافي والأيديولوجي، فإن بُناها الدستورية والقانونية لم تعد تحتمل ذاك الهامش، الذي نسي أو تناسى وجود بعض حقوق لا تكاد تُرى أو تُذكر، للمواطن الفلسطيني في أرضه وفي وطنه، وها هي قوى اليمين الديني والقومي المتطرفة، وهي تحكم اليوم في إسرائيل، تحاول استلحاق ما فاتها من تهويد وأسرلة واقع كيانها ووجودها العنصري، على حساب شعب وأرض الوطن الفلسطيني. وما هذا الفيض التشريعي العنصري، والسلوك اليومي المتطابق عمليا مع تشريع القوانين العنصرية، سوى السهام الأخيرة في جعبة محاولاتها، فرض منطقها الخاص للأبارتهايد، بطبعته اليهودية – الصهيونية، وهويتها العامدة إلى رفض مواجهة التاريخ، خوفا من المستقبل الذي لن يكون سوى مرآة لماضيها، ولحاضرها الإجرامي البشع بحق الإنسانية؛ وليس بحق الشعب الفلسطيني ووطنه فحسب.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 1/أيلول/2010 - 21/رمضان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م