ثورة السحل.. سحل الثورة

حيدر قاسم الحجامي – العراق

تبقى التواريخ المهمة حاضرة في العقل الجمعي لأي مجتمع وخصوصاً إذا ما اقترنت هذه التواريخ بإحداث جسيمة قد تغير شكل الحياة وطبيعة العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية، تبقى هذه التواريخ متقدة ما إن تمر حتى تستفز لذاكرة لاستعادة تلك اللحظة التي بدأ فيها الحدث.

في العراق الحديث ثمة تواريخ مهمة ارتبطت بذاكرة الشعب العراقي خصوصاً تلك التي ارتبطت بالإحداث السياسية حصراً، لأن السياسة كانت ومازالت تلقي بظلالها على الحياة بنواحيها الأخرى، لذا ترى مفكرة الأيام العراقية مزدحمة دوماً بالإحداث والتقلبات.

في الذكرى السنوية لثورة 14/ تموز/1958التي مرت علينا في الشهر الماضي استعاد العراقيون بشيء من الوجع وشيء من الندم وشيء من التأمل تلك َ الذكرى بل تلك الحسرة، نعم الحسرة لأنهم أحسوا إن ثمة ما يدعو للحزن فعلاً، إن تمر خمس عقود على الثورة التي كان قادتها يحلمون بان تقود العراق الى مصاف الجمهوريات العظيمة والغنية في العالم، ولم تجني البلاد والعباد سوى الخراب ولم تجر خلفها سوى الحروب، أنها مهزلة بقدر ما هي واقع محزن،كيف سيكون شكل العراق لو لم تقع هذه الثورة في ذلك اليوم القائض؟، ماذا لو كان 14/تموز يوماً عادياً كسائر الأيام؟

 كالعادة انقسم العراقيون حيال ثورة 14/ تموز فمنهم من يعتقد أنها كانت من الثورات التقدمية التي لولا العقلية العسكرية التي استبدت بالسلطة لاستطاع العراق إن يكون غير هذا الموجود على خارطة العالم اليوم، آخرون يعتقدون إن ثمة تحالف دولي- إقليمي وأد الثورة وأعاد العراق الى مربعه الأول دون إن يعيد بالضرورة شكل النظام السابق، وما بين الفريقين يوجد من يؤكد إن للبيئة العراقية والشخصية العراقية ما يبرر كل هذا التحول الكمي الهائل وان هذه الثورة فتحت الباب واسعاً إمام كل هذه الثورات المتلاحقة التي قادت البلاد الى ما هي عليها الان، فهذه البلاد كانت ومنذ زمن بعيد حاضرة بقوة في تواريخ الحروب بل هي تتنفس الحرب صباحاً ومساءاً، الدم كان الشعار الأبرز الذي تحول فيما بعد الى شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، الموت لغة يفهمها العراقيون أكثر من غيرهم، لذا هم دائمو الاحتفاء بالموت ويتفننون في ذلك الاحتفاء الأسطوري، مواصلين الحفر في ايركولوجية القمع المتسمر.

ولكن الكل يجمعون على إن الثورة كانت نتائجها واحدة فهم رأوا كيف ولدت الثورة ثورة وكيف جر الانقلاب انقلابا أخر اعنف منه، وكيف التهمت الثورة أعدائها وأبنائها على السواء، كيف عادت الأمور لتوقع العراق في احتلال ما بعد الألفية الثانية، كيف تبخر حلم العراقيون في إن يناموا وثمة من يحرسهم لا إن ينام الحراس ويحرسهم الشعب بالدم.

 نعتقد إن في محاكمة ثورة 14/ تموز عبرة ولكنها تدعو الى محاكمة أخرى للشعب الذي أعلن ومنذ انطلاقة ثورة تموز إن طقوس جديدة ستكون حاضرة وان ثمة ما يستمد من التاريخ الملطخ بالدم حاضر في الذهن الاجتماعي.

ثورة تموز كانت الباب التي عادت من خلالها ثقافة الموت بكل معانيها الى الواجهة من جديد، فمع إطلالة الثورة الأولى كانت ثمة حبال غليظة تربط بها إقدام قادة سابقين وجثث جاهزة للسحل..! في الشوارع منذ ذلك الحين كان على العراقيين إن يدشنوا عصرهم الجديد المليء بالقتل والسحل،لا ادعي إن ثقافة السحل بدعة اخترعها العراقيون معاذ الله..!.

ولكنني أتساءل كيف انسلت هذه الثقافة من عمق التاريخ لتمثل في لحظة عراقية راهنة، أنها سلفية الدم وشبق السفح، لستُ في معرض الاتهام ولكن يحضرني سؤال دائم : أين يقبعُ اؤلئك الجلادون الذين ما برحت ذاكرتنا المتعبة من ثقل الذكريات تستعيد صورهم (طول القامة وقسوة شديدة وعيون واسعة دائرية الشكل شوارب كثة عضلات مفتولة) أين يمكن إن يكونوا الآن؟.

اؤلئك الذين يتقنون لعبة السحل هل لازالوا حاضرين لان يعيدوا الكرة كلما احتاج الأمر بنظرهم لسحل آخر؟

من هم هؤلاء الذين (يسحلون) كلما قامت ثورة؟، والى أي طبقة ينتمون؟ وكيف يشعر(المسحولين) إن كانوا على قيد الحياة طبعاً، والحبال تطوق إقدامهم وسط فرح شعبي غامر، وهتاف دُشنه الاشتراكيون العراقيون (ما كو مؤامرة تصير... والحبال موجودة)، ثم يأتي التساؤل الأهم : هل هناك ترابط في ثقافتنا كلمتي المسؤول والمسحول !!.

هل يعرف المسؤول الحالي انه قد يكون المسحول القادم في شوارع المدن العراقية وسط هتافات البعض وصراخهم، ثمة ما يشير الى ارتباط وثيق الصلة بين غضب شعبي ولاوعي راسخ في عمق تفكير هذا الشعب الذي أدمن الموت وصوره ِ، يسهم دائماً في تكوين تلك اللحظة التي تنفلت من المنطق والتفكير الى الهمجية وسيادة منطق الغابة والوحشية، إلا إن العراق كان مسرحاً للسحل والتمثيل بالجثث تاريخياً، فهذهِ السلطة الأموية ممثلة بحاكمها عبيد الله بن زياد، تصدرُ أمرها الشهير بقتل سفير الحسين (ع) مسلم ابن عقيل ومضيفه هاني بن عروة ويدار بالجثث في الأسواق سحلاً من الإقدام وسط فرح غامر، حتى لم يبقى من جثثهما سوى عظام مهشمة كما تنقل الروايات،ولم تمضي فترة على هذه الحادثة حتى أعاد أهل الكوفة الكرة بسحق وسحل جثث الحسين (ع) وأصحابه في كربلاء بعدما كانت السلطة أصدرت قرارها بذلك، وهكذا كان التاريخ الإسلامي حافلاً، وتاريخ بغداد شهد على مختلف العصور سحلاً متواصلاً للجثث، على اختلاف أنواع المسحولين (علماء، وزراء، حكام، خلفاء وحتى مجرمين وقتلة) القتل والسحل والتمثيل فنون القسوة التي تأبى إن تغادر موسوعة الثقافة الاجتماعية، لم يتخلص العراقيون من هذه الثقافة المقيتة.

ففي صبيحة يوم الثورة ففي لحظاتها الأولى أبيدت العائلة المالكة عن بكرة أبيها، ولم ينج سوى نوري السعيد الذي تنكر هارباً بزي نسائي، إلى إن اكتشفه احد الثوريين فقتله وقتل الوصي حتى يذكر المؤرخون الذين شاهدوا تلك اللحظات إن لم يبق من جثة السعيد سوى عظم العصعص، فيما فضل قصاب بغدادي تعليق لحم الوصي على واجهة محله تشفياً ِ.

 كيفَ يبرر المجتمع هذه القسوة وكيف يمكن إن تمر هذه المشاهد إمام عيون الجميع ووسط زغاريد النسوة وأهازيج الرجال، لماذا تختزن الذاكرة العراقية كل هذا الكم الهائل من ثقافة الدم والقسوة والعنف؟

إن غياب أنظمة الضبط الاجتماعي هي من تقف دائماً وراء ظهور الموجات البربرية وتحرك المجتمع ليتحرك في انساق العقل الجمعي وثقافة (القطيع) التي تقود هذه الممارسات الفظيعة، كما إن غياب الديمقراطية والمنظمات المدنية وضعف البنية الاجتماعية وترسخ قيم البداوة والثأر وعدم الثقة بالقانون يدفع المجتمع الى اقتناص أي فرصة تتخلخل فيها السلطة السياسية لينقض عليها، وليمارس عدالته التي يعتقدها هو لا التي يعتقدها العقل.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 30/آب/2010 - 19/رمضان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م