العلاقة بين العدالة والعولمة

رشاد  سلامة

ليؤذن لي بداية أن أعرّف بنفسي، لعلّ التعريف هنا يضيء على طبيعة علاقتي بهذا المؤتمر، وموقعي منه، ليس فقط من زاوية البحث العلمي، بل من زاوية الوجدان الشخصي المنتمي الى سيرة الامام عليّ (ع) وفكره، ومواعظه، ورسائله، وخطبه وحكمه، اي الى مدرسته الجامعة للقيم السماويّة والانسانيّة، والتي لا تختصّ بزمن معيّن، ولا بجماعة بعينها، لأنّها مشاع للعالمين، ولأّن القيم تعبّر عن خلاصات لحقائق متّصلة بزمنها من جهّة، غير انّها من جهة اخرى حقائق راسخة ومواكبة لأحوال الانسان والمجتمع في كل الازمنة، على اطلاقها....

أنا ابن الشاعر الذي طرح على نفسه سؤالاً في مقدّمة " عيد الغدير"، بكر الملاحم العربيّة، قائلاً: ما بال هذا المسيحي يتصدّى لملحمة إسلاميّة بحتة؟ ثم أجاب على السؤال بقوله:

" أجل ! إنّي مسيحي ينحني امام عظمة رجل يهتف باسمه مئات الملايين من النّاس، في مشارق الأرض ومغاربها خمساً كل يوم. رجل ليس في مواليد حواء أعظم منه شأناً، وأخلد ذكراً. رجل أطلّ من غياهب الجاهليّة.فأطلّت معه دنيا أظلّها بلواء مجيد، كتب عليه باحرف من نور: " لا اله إلاّ الله ! الله أكبر "

في بيتي الوالدي كنت أنهل من مدرسة الامام عليّ، وفي مدرسة الحياة كنت أمارس تعاليمه، فأخشع لتقواه، وأغضب مع غضبته، وأنتصر لحقه، وأعجب بعدله، وعبقريّة قيادته، وأكبر حلمه، وأسترشد بحكمه، وأقرأ في كتابه، وأقف طويلاً عند جليل أحكامه وخطابه الفصل في موضوع الحق، والعدل،ومقاومة الظلم، وأخلاق الحاكم وصفاته،سواء بما دعاه اليه أم بما حذرّه منه.

إن الكلام على العدالة، في اي من المحاور جدول أعمال هذا المؤتمر، يشمل بالضرورة هذه المفاصل كلّها، اي الحق وحرماته، والعدل ومقتضياته، والحاكم وحدود سلطانه، وعلاقة الحاكم بالرعيّة.

ولئن كانت رسالة  " عليّ " الى الاشتر النَخَعي، هي اطول عهد كتبه، وأجمعها للمحاسن، ولئن كان ما بات يعرف بعهد الاشتر، يشكّل بذاته مرجعاّ غنيّاً للموضوع الذي نحن الآن بصدده، فأنّ هنالك حدائق من رياحين الفكر، وأزاهيره، تناثرت درراً في مناسبات أُخر، تقيم حدود العدل وترشد مجتمع الإنسان الى شرائع واعراف، تأخّر بعضها كثيراً قبل ان ينتظم ضمن الشرائع الدوليّة التي ترعى حقوق الانسان في هذا الزمن.

يحضرني من هذه الدرر قول علّي في العدل: " اعدُل الناس مَنْ أنصف عن قوة، وأعظمها حِلماً منْ حلم عن قدرة " وقوله عليه السلام:"إِعدل تحكم"  " وإعدل تدم لك القدرة " وقوله ايضاً: " اعدلُ الخلق اقضاهم بالحق " وإنّ " أعدل السيرة أن تعامل الناس بما تحبّ أن يعاملوك به ".

إنّها نماذج رائعات من الحكم والأحكام التي وإن صيغت بمختصر الكلام، فهي تنطوي على مبادىء تصلُح مرتكزاً لأطروحات فكريّة،ومنطلقاً للفقه القانوني، وللاجتهاد في وجوهه كلّها.

ومن طبيعة العدل بداهة حماية الحق، بدون أثرة، والمساواة بين الناّس. وبهذا المعنى قال عليّ (ع): " إيّاك والاستئثار بما للناس فيه أسوة، والتغابي عما وَضَح للناظرين، فانه مأخوذ منك لغيرك ". وقوله " إيّاك ان تغفل عن حق اخيك إتكالاً على واجب حقك عليه، فان لاخيك عليك من الحق مثلُ الذي لك عليه ".

هنا ايضاً يجد المرء قواعد صارمة لحماية الحقوق، موضوعة بصيغة بسيطة. وهي تدّل على حرمة الحق، بما هو تعبير عن العدل، أو مشتق منه.واما الاخلال بهذه القواعد، فهو يقود حتماً الى نقيض العدل والحق، أيّ الى الجور والظلم.

في هذين قال عليّ: " إيّاك والجور فان الجائر لا يَريح رائحة الجنّة ". وإيّاك والظلم فانّه أكبر المعاصي، وإن الظالم لمعاقب يوم القيامة بظلمه ". " وإيّاك والظلم فانّه يزول عمّن تظلُمه ويبقى عليك ".

بصيغة النهي عن أقبح المعاصي، حذّر " عليّ " من الظلم، ووصفه وعرّف به، ودلّ على مواضعه وعواقبه فقال " إنّ الظلم وخيم العاقبة " وإنّه يجلب النقمة، ويدمّر الديار، ويردي صاحبه، ويطرد النعم، ويوجب االنار، وإنّ منْ ظلم الحق نصر الباطل.

بعد هذا وبعد ما سمعناه في هذا المهرجان، بلسان نخبة المتكلّمين قبلي، لم تعد ثمة حاجة الى مزيد من الدلالات على مكانة العدالة في فكر الامام عليّ (ع) وتعاليمه، ورؤيته السامية الى حقوق النّاس، افراداً وجماعات...

وإنّه لمن الثابت ان " عليّا " قد أرسى هكذا قواعد القيم والمبادىء، والمثل الانسانيّة التي ينبغي لعالمنا الحاضر ان يحرص عليها، وان يعمل بهديها، ويهتمّ بتطبيقها، بالممارسة الفعليّة، وليس بالقول وحده، ولا بالنظريات وحدها.

إن السؤال هنا مطروح حول مدى إلتزام المجتمع الدولي بتطبيق شرائعه المتعلّقة بحقوق الانسان، بل لعلّ السؤال يجب ان يبدأ من مدى حقيقة وجود ذلك المجتمع الدولي، الذي يفترض أن يكون عادلاً، ونزيهاً، وشريفاً، ونظيفاً، غير ظالم، وغير جائر، وغير حائف، وغير منحاز الى غاصب يعتدي، ومستكبر يستقوى بسلاحه، ليقهر به قوّة الحق.

نحن في هذه المنطقة، إختبرنا حقيقة ذلك المجتمع، ومواقفه من قضايانا الحق، بدءاً بفلسطين: القضية العربيّة الاولى، ولكنّها باسف القضية التي صارت مهددة بان تصبح أولى القضايا الانسانيّة العربيّة المنسيّة بفعل التآمر الدولي الاميركي – الصهيوني، وبفعل غفلة النظام العربي الرسمي عن هذه القضيّة،  بل انخراط بعض العرب في صلب الموآمرة، بذريعة الاعتدال الذي يعبّر بواقعه وجوهره، عن حالة الانصياع العربي للظلم والاستبداد، ولقوى القهر والاستكبار.

من أجل مشاريع العولمة، ذلك العنوان الغامض والملتبس، وبذريعته ايضاً، تسلّط الاضواء على السراب، على الاوهام مزيّنة بالوعود الخلاّبة، إذ يقال للناس إن العالم يرتقي بفعل العولمة، ويتقدّم ليصبح عالماً أفضل؟! ويبقى السؤال معلّقاً: أفضل لمن؟ وباي معيار؟ وهل الأمر فعلاً هو كما يقال؟!

بذريعة العولمة، يتم تجاهل التفاصيل الجوهريّة، ويضحى بالقضايا الانسانيّة الكبرى، وتتضاعف أزمات الشعوب والأوطان التي كان يجب أن تتقدّم، كل الاهتمامات الدولية الاخرى، وكل المزاعم القائمة حول العولمة وجدواها.

من هنا الغضبة الشعبيّة المبررة، التي تواجه لقاءات قادة الدول الصناعيّة الكبرى، سواء اختصرت الدول بثمان أو اتّسعت لعشرين. من هنا أيضاً الحالة الجماهريّة المقاومة لمعاهدات معاصرة، ومشتقة من شعار العولمة كمعاهدة التجارة العالميّة مثلاً، إذ تبدو في ظاهرها جنّة مشاعة لدول العالم وشعوبه، فيما هي  بواقعها، أداة لمزيد من تسلّط الأقوياء على اقتصاد البلدان النامية، ولمزيد من إحكام قبضة الأقوياء على ثرواتها الطبيعيّة، أو على مواردها البشريّة الواعدة.

ثمة ممر حقيقي يجب أن تعبّر منه مشاريع العولمة. وهذا الممر هو الامتحان الجدّي الذي  يثبت جدواها، أو يفضح زيفها.

أقصد بهذا الكلام أمراً محدداً بالجواب المطلوب على الاسئلة والتساؤلات الآتية:هل تشمل العولمة عولمة العلم والمعرفة؟ هل هو صحيح أن ما احرزه العلم من تقدّم ورقيّ في البلدان الصناعيّة الكبرى أصبح في متناول سائر دول العالم؟ هل اجازت العواصم المسمّاة عواصم القرار للدول التي لا تنتمي الى نادي الكبار،حق التمتّع بالمعرفة، وتطويرها،واستخدامها السلمي لملاقاة حاجاتها،ولمنفعة مجتمعاتها؟

أنْ تكون " العولمة " وسيلة حقيقيّة لجعل العالم قرية صغيرة، فذلك يعني بالتفصيل وضع التطوّر في كل مجالاته الصناعيّة والزراعيّة، والاقتصاديّة، والتقنيّة، في متناول الجميع عملاً بروحيّة شرعة حقوق الانسان، لجهة حق الناس بالعلم والمعرفة، فهل خدمت العولمة هذه الغايات فعلاً، وهل شرّعت هذه الآفاق لمجتمع الانسان كلّه؟ وهل يتـّجه العالم الى مزيد من العولمة، أم أنه، يتـّجه الى مزيد من الاقلمة، وفي رأيي ان العالم ذاهب في هذا الاتجاه فعلاً.

بكل حال فان الجواب القاسي والمؤلم، والمعيب، يأتي من تجربة الجمهوريّة الاسلاميّة الايرانيّة. الدولة الاقليميّة الصديقة، والحليفة،بسبب مسعاها الهادف الى امتلاك المعرفة  النووّية، وموقف مجلس الأمن الدولي من هذه المسالة.

إن المجلس المذكور لم يعد، يمثل سلطة دوليّة نزيهة، ولا مرجعاً عادلاً يترجم مشيئة الدول الأعضاء في الامم المتحدة، بل أصبح دائرة صغيرة ملحقة بدوائر البيت الابيض، فيما قراراته المسمّاة دوليّة تصاغ أصلاً في احدى اللجان الفرعيّة للكونغرس الاميركي، ودائما بالوحي الصهيوني، أي بمشيئة الكيان الذي يمتلك مفاعلات أنتجت ولا تزال تنتج، عدداً غير محدّد من القنابل الذرّية !!

كلا، لم اذهب بعيداً عن الموضوعات التي يعالجها هذا المؤتمر، فأنا ما زلت من صميمه في الصميم... أو ليس أن العدالة هي الاصل والعنوان؟ إنّ عالمنا اليوم هو كما كان بالأمس، عالماً منقسماً بين غنيّ وفقير، بين شمال رمزي، يعيش برخاء، وجنوب مغلوب على أمره، مقهور، يعاني من الفقر والحرمان، وإنّه لمن المؤكّد أن العولمة ليست العلاج المناسب لهذا الظلم.

الفقير كان محل عناية أمير المؤمنين الامام عليّ (ع) وكان عنوان معركته ودعوته، من زاوية فكره، ومن فسيح ارجاء ايمانه، ولذلك حدّد المسؤول عن افقار النّاس، وفرض باسم العدالة على مسبّب الفقر ومرتكبه، حساباً مع الله عسيراً.

بكلمات بسيطة أوجز " عليّ " سبب معضلة الفقر في العالم، وأوجد لها الحل الانساني العادل بقوله:" إن الله فرض في رزق الاغنياء، قوت الفقراء، لاّنه ما جاع فقير إلاّ بما متّع به غنيّ، وإنّ الله سائلهم عن ذلك ".

أيّها الاخوة الاعزاء.

أيّها الحفل النخبوي الكريم.

لقد شرّفت اليوم قلمي بذكر الامام عليّ، في هذا المهرجان الذي تكرّم بدعوتي إليه مركز الفردوس للثقافة والاعلام، بشخص سماحة المشرف العام السيّد فاضل الطبطبائي، إحتفالاً بذكرى ولادة الامام علّي... في تحيّتي الوجدانيّة مرفوعة  الى هذه المناسبة لم أجد أفضل مما قاله بولس سلامه، ولذلك فاني أستعين على الكلام بأبيات ماخوذة من إحدى قصائده، لأعلي  بها  شأن  كلامي في هذه الذكرى العظيمة.

يا  إِلهَ  الأكوانِ  أشفِقْ  عَلَـيَّا                    لا تُمْتنـي غِـبَّ  العذابِ  شقيّا

أولني أجرعامل،في صعيد الْ                   خيرِ يبـغـي ثوابَـكَ  الأبـديّـيـا

مصدرَ الحقِّ لم اقلْ غيرَ حقِّ                    أنـتَ  أجـرَيتــَهُ عـلى شفتـيـّا

أنـتَ ألـهمتـَني  مـديحَ  عـليٍّ                    فـهمَىَ غـيدقُ  الـبيـانِ عـلَـيّـا

وتخيّرْتَ  للأميـرِ واهـل ِ الْ                    بيتِ  قـلبـاً، آثـرتَهُ  عيسَويّـا

جلَّ ربُ الوجودِ باري البرايا                   أن يُـرى فـي حـنانِه  حـزبيّـا

إِنما  الـخلقُ كلُّهم لعيالُ الـــــ                    لَّهِ والشهـمُ من  يكـونُ  تـقيّـأ

*    *    *

يا عليَّ العـصورِ هــذا  بيـاني                 صغتُ فيه وحيَ الامام ِجـليّــا

أنت سلسلْتَ من جمانِكَ لِلْفُصـ                 حى ونسقـْتَ ثـوبـها السحريّـا

يـا أميرَ البيان ِ هــذا  وفـائـي                  أحمـدُ اللهَ  أنْ خـلـقـْتُ  وفـيَّـا

وهو جهدُ المريضِ ليس عليه                 من جناحٍ  إِن لـم يـدقَّ الثـريّـا

يا أميرَ الإسلام حسبيَ فـخـرًا                 أنـَّني مـنـك َ مـالىءٌ أصغـريّا

الشكر لكم جميعاً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

* كلمة  رشاد  سلامة  في  المهرجان  العالمي العاشر لإمام علي (عليه السلام ) تحت عنوان " الامام عليّ بن ابي طالب (ع) صوت العدالة الانسانيّة " بدعوة كريمة من " مركز الفردوس  للثقافة والاعلام " دمشق -26/6/2010 م

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 28/آب/2010 - 17/رمضان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م