في عالم الملائكة... نورندا العالَم الحاضر الغائب

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: ينتمي الشاعر هادي الربيعي في ديوانه – عالم الملائكة – دار الشؤون الثقافية الى عالم الروح شأنه في ذلك شأن عدد من شعراء العراق، ونكاد ان نلمس لمس اليد ذلك الصراع القائم بين قطبين متعارضين هما ( حضور عالم الشاعر ممثلا بنورندا وغيابه في آن ) على اننا نفهم ان هذا العالم يعج بنقائض اخرى ولذلك جاءت اغلب القصائد محملةً بالإشراق تارة وبالخفوت تارة اخرى وكلما تألقت روح الشاعر حضرت نورندا وكلما داهمه الخذلان راح يناجي عالمه الخفي الذي يرمز له في اكثر من قصيدة بالبحر وهو الوجود الذي يقف بغموض امام روح الشاعر وهو الحقيقة الهاربة كما يرد ذلك في اكثر من قصيدة :

روحي تُحَّومُ

حول نورندا

ونورندا

شعاعٌ هاربٌ

عبر َ العوالمِ

كلما أوغلتُ فيهِ

توغَّلتْ فيَّ المتاهةُ /  ص 33 

ان الربيعي يطلق قصائده كما لو انها اسئلة متلاحقة تلهث وراء بعضها حتى نكاد نسمع انفاسها المتصاعدة وهي بذلك تشي بقلقٍ يسَّورُ كينونته سواء ما ينطق بالذات او الخارج ولا يكف عن إطلاق هذه الأسئلة، ولأن الأسئلة هي التي تحاصر الشاعر الربيعي فانه يحاول اتقاءها  من خلال الإحتماء بالشعر المعمد بروح قوية لكنها قلقة لا تعرف الصمت او السكينة في عالم مرتبك ومربك ايضاً وغامض اشدَّ الغموض  وللربيعي رموزه الواقعية التي يصعب بها الى مصاف (الروح/ الشعر) فثمة المراكب وهي تجسيد واقعي للسفن غير ان الشاعر يقرنها بروح باحثة ويحيلها الى رمز روحي فاعل ونشيط كما نقرأ في قصيدة مشاعل:

ربما

يتعالى نشيجُ المراكبِ

وهي تولولُ

تائهةً في البحار

انها تجهلُ الآن

ان مراكبَ ارواحنا

أبحرت

وهي تحمل

في كل قلبٍ

فنار / ص25

وهكذا تتحول المراكب من المادي الى الإيحاء الروحي في اشارة الى ان الروح ما تزال تبحر في بحثها عن اجوبة لأسئلة المطلق ، ثم نجد الشاعر في خضم هذا التيه يستمر في احتمائه بالكلمات، نعم فليس لديه سوى الكلمات التي ينسج منها شعراً يلتمس فيه جرعات مهدئة للشاعر المحاصر بمجاهيل الذات / الوجود/ الحقيقة، ونقرأ في قصيدة الكلمات:

وحدها

الكلمات

تفتحُ الآن أحضانها

وتناديهِ كي يستريحَ

على صدرها

وحدها

تفهمُ العنفوان َ المباركََ

ينسابُ دفءُ اصابعها

هادئاً

في جراحاته

وحدها

الكلمات

ان الربيعي وان لم يصرّح الاّ قليلاً بعالم نورندا الاّ ان هذا العالم يكاد يطغي بوضوح على اجواء الديوان، وبرغم غموض هذا العالم وتأرجحه بين الحضور الساطع والغياب القاسي فان الشاعر يلجأ الى رموز ملموسة تشير الى نورندا كما نلاحظ ذلك في مفردة البحر بكل ما ينطوي عليه من اسرار ونقائض شائكة تحد من محاولة الوصول الى حقيقة هذا العالم الخرافي فنقرأ في قصيدة كان يتأمل البحر:

كان يمضي

على ساحلِ البحرِ

عيناه ُ في الموج ِ

يُبحرُ في كتبِ الأقدمينَ

ليُمسكَ سرَّ الخليقة

وراءَ الحقيقةِ

يرحلُ

يمضي على ساحل

البحرِ

يرقبُهُ من بعيدْ

قمرٌ شاحِبٌ

وإلــهٌ

وحيد  / ص7

 ويتضح ما يهدف اليه الشاعر من – نورندا – في قصيدة – الأخر- الذي يمثل (المطلق/ المجهول / الحقيقة ) فيلجأُ اليها وهي التي تتعلق بأبعد الكواكب في الكون يسمع همسها ويلوذ بها من ليل المجهول ويستحضر عالمها الغائبَ لتتشكل بذلك ثنائية الحضور / الغياب لعالم نورندا الذي يُعد الأمل الوحيد للشاعر في وصوله الى مرفأ الحقيقة فنجدهُ يقول :

نورندا

هوَ ذا الليل ُ

صديقُ همومي

يهبطُ ثانيةً

وأنا استلقي

تحتَ قناديل الله

أسمعُ همسَكِ

ينساب ُ رقيقاً

من أبعدِ كوكب  / ص82

ويقول فيها ايضا :

في ليل الروح

وأنا اتسلقُ

اسنانَ الصخرِ

اليكِ فاسقطُ ُ

وأعودُ

وأسقطُ ثانيةَ

وأعودُ

وأسقطُ ثالثةً

وأعود

في اشارة الى اسطورة سيزيف ، غير ان الشاعر هنا أكثر تفاؤلاً وتشبثا بالوصول برغم السقطات المتتالية امام عقبات المطلق فنسمع في القصيدة ذاتها :

أسمعُ

همسَ الناي القادم ِ

من أبعدِ نجمْ

يلمسُ روحي

وأنا أمضي

في موجِ الليل ِ الأسود

كي ألمسَ

كفَّ الآخر فيك

طيراَ ذهبيا

ومع هذا الاصرار ينحسر تفاؤل الشاعر وتخفتُ روحهُ أو تكبو ازاء الغيوم فمن حالة إشراق هائلة وقوة روح شبه مطلقة الى انطفاء مفاجئ في لحظة غريبة تسّورُ وجودَ الشاعر كما في قصيدة غيوم :

تمرُّ الدقائقُ

مثلَ السلاحفِ

أرقبها

وهي تعبرُ فوقي

ببطيءٍ حزين

فجاةً

كلُ شيء ٍ

يصيرُ غريباً

وجودي على الأرضِ

كلُ الذي مرَّ بي

في حدودِ زماني

مُدِّي يديكِ

فإني وحيدٌ

على الأرضِ

والحزنُ

مُنتشرٌ

في سماوات ِ روحي

مثلَ الغيوم

وهكذا نلاحظ ُ ان هذه القصيدة تمثل حالة غياب لنورندا غير انه ربما أطلقها رسالة شكوى او عتب او انقاذ الى نورندا العالم الغائب الحاضر وغالباً ما يتجسد الحضور مع الألق الروحي للشعر اما الغياب فيكاد يقترن بحالات التذمر والتراجع أزاء الذات / الوجود المسَّورين بالغرابة والغموض .

ان عالم الملائكة يُعد عالم ملائكة حقا برغم شواهد الخفوت والحزن والشكوى التي تنهض في هذه القصيدة أو تلك فلربما كانت هذه المفردات من صفات الملائكة والملاك المحصنُ بالحزن ربما كان اكثر تميزا من قرينه السعيد أصلاً واخيراً اقول ان هذا الكتاب الشعري تجربة شعرية عراقية تشتبك مع تجارب شعرية روحية مؤشرة من قبل النقاد وتشكل معها اتجاهاً شعرياَ عراقياً له حضوره ودوره الفاعل في ساحة الشعر العربي.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 24/آب/2010 - 12/رمضان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م