ظهور أدمغة علمية نابغة ليست حكراً على الدول الغنية والمتقدمة، فكم
هي تلك الشخصيات العلمية اللامعة التي هاجرت من بلدان فقيرة بسبب عدم
قدرة حكوماتها على الاستثمار في كفاءات أبنائها فالتقطتها الدول
الغنية، واستثمرت فيها استثماراً منهجياً حتى برزت شهرتها العلمية
عالمياً.
فقد استطاعت الأدمغة المهاجرة أن تقدم خدمات كبيرة للدول التي
احتضنتها، فعن طريقها استطاعت الدول المتقدمة أن تحافظ على تفوقها
العلمي والتقني، وتعزز من ريادتها في العالم. هذه هي إحدى نتائج
العولمة الثقافية والأكاديمية التي يقتطف الغرب ثمارها بجدارة اليوم،
ويزيد في رصيدها الحضاري، في الوقت الذي تستمر فيه الدول الفقيرة
والنامية في التقاط ما ترمي لها الدول الغنية من بعض مخلّفاتها
وفوائضها في صورة مساعدات.
أرقام مخيفة تتحدث عن هجرة شريحة كبيرة من الأدمغة العلمية من
العالمين العربي والإسلامي إلى الغرب، فطبقاً للإحصائية الصادرة من
وزارة الهجرة المصرية فإن إجمالي عدد المصريين من العقول والكفاءات
التي هاجرت إلى الخارج وصل إلى 824 ألفاً، من ضمنهم قرابة 2500 عالم! .
الدول العربية وحدها تساهم بما نسبته 31 % من هجرة الكفاءات من
الدول النامية. هذا الزحف الهائل من الكفاءات العلمية نحو الغرب يدل
على فشل الكثير من الاستراتيجيات التنموية للدول العربية من ناحية،
وعدم قدرة هذه الدول على الاستثمار في كفاءات أبنائها من ناحية أخرى؛
وهذا ما ساعد على هجرة شريحة كبيرة من الأدمغة إلى الغرب إما بحثاً عن
لقمة العيش، أو ارتقاء في مجال المعرفة والبحث العلمي، حيث الإمكانيات
المتاحة تساعدهم على الإبداع والعطاء.
الغربيون وعبر سفاراتهم ومؤسساتهم العلمية كانوا ولا زالوا يرصدون
أنشطة العلماء والطلبة النابغين في البلدان النامية، ويسعون لاستقطابهم
من خلال إغراءات تشجعهم على الهجرة. قبل أكثر من خمسة عقود وقبل أن
تتوسع شبكة العولمة، كانت الدول الغربية تعمل على استقطاب العقول،
فوضعت الخطط والمحفزات التي تشجع الأدمغة العلمية للهجرة إليها بصورة
منظمة.
أما اليوم وبعد أن أصبحت الدراسات الأكاديمية معولمةً، وأضحت لمعظم
الجامعات الغربية فروع في الدول العربية، فقد جعلت هجرة الأدمغة
العلمية أكثر يسراً من ذي قبل.
ذكرت صحيفة (أخبار الخليج) بتاريخ 3/6/2010 نبذة عن (بن ويلدفسكي)
مؤلف الكتاب (سباق الأدمغة The Great Brain Race) الذي يشير إلى “أن
التنافس الذي تشهده الساحة الدولية من أجل الظفر بأفضل الأدمغة العلمية
والتقنية يسهم اليوم في تغيير وجه التعليم الجامعي في العالم”. طبعاً
المؤلف لم يخفِ مخاوف البعض من هذه الظاهرة، بل أكد على ضرورة “الإشادة
بهذه الظاهرة بدلاً من المبالغة من التخوف منها”، فهو يرى “أن العولمة
الأكاديمية إنما تساهم في عولمة مفهوم الجدارة، بحيث أن انتشار المعركة
على هذا النطاق الواسع من شأنه أن يعود بالنفع تعليمياً واقتصادياً”،
ولكن المؤلف في نفس الوقت يعتبر المعركة المركزية في القرن الحادي
والعشرين هي التي تتعلق بالمنافسة على الأدمغة من قبل الدول الغربية
التي تستقطب أمهر العقول وأفضل طلاب العلم من دول العالم الثالث؛ سعياً
منها للحفاظ على ديناميكيتها ورخائها.
كنت أتمنى أن يشير المؤلف إلى أعداد العلماء وأساتذة الجامعات
الذين رفضوا الهجرة من بلدانهم وتمت تصفيتهم جسدياً، وخاصة في العراق.
ختاماً، لا ننفي أن للعولمة الأكاديمية بعض الفوائد، إلا أن الرابح
الأكبر في هذه المنافسة من دون شك هو الغرب المتقدم علمياً وتقنياً
واقتصادياً، وأما السلبيات الأخرى التي ترافق العولمة، فبالإضافة إلى
هجرة الأدمغة وهي أخطرها، فإن المخاوف تصب في تحويل المؤسسات
الأكاديمية إلى أسواق تعليمية معولمة، تركز على الربحية بدل الجودة،
وخاصة بعد تزايد افتتاح فروع للجامعات العريقة في المنطقة العربية. فمن
هذا المنطلق نسجل تحفظاتنا ومخاوفنا من العولمة الأكاديمية، والتي لا
نرى البراءة لا في مؤسسيها ولا في أهدافها، متمنيًا ألا يتهمنا البعض
بأننا مشحونون بنظرية المؤامرة أو أننا نكنّ الكراهية للغرب. |