ألف عام من العزلة

كاظم فنجان الحمامي

رحل الجواهري عن عالمنا، وترك لنا شهادته النونية على آلام دجلة وجراحها النازفة منذ ألف عام، وعبّرَ لنا في تلك الشهادة عن لوعته على عذاباتها وهي تصغي لأوجاع المساكين على مدى عشرة قرون، كانت كافية لاستثارة غضب شاعرنا الكبير، فحركت شجونه على تلك السنوات التي ضاعت هدرا من أعمارنا وأعمار أجدادنا، ووقف على رماد نكباتها في مستهل قصيدته (يا دجلة الخير):

يا دجلة الخـير ادري بالذي طفحت

بـه مجاريك مـن فــوقٍ إلـــى دون

ادري بأنــكِ مـن ألفٍ مضتْ هدَرا

للآن تـهْزيـنَ مـن حــكم السلاطيـن

تـهْزيـنَ مــن خصْبِ جنّـات مـنثّرةٍ

علـى الضفـاف ومن بؤس الملايين

ومجاراة لغابرييل غارسيا ماركيز في روايته الرائعة (مائة عام من العزلة) اقتبست عنوان هذه المقالة، مع الأخذ بنظر الاعتبار اختلاف الرؤيا، وتباين الأوضاع المأساوية التي عصفت بالعراق، وحرمته من مواكبة مسيرة التحضر البشري، فسقط خلف أسوار العزلة، وعاش في كهوف التخلف، ولم يستطع الخروج من هذه العزلة، التي صنعتها الظروف السياسية الفاسدة، وعمقتها الخلافات العرقية والطائفية، وزادت من عزلته الغزوات الهمجية على بغداد، والتي تمثلت في متوالية كارثية، بدأت في العام الميلادي 813، ولم تنتهي حتى الآن، ولسنا هنا بصدد الحديث عن غايات ورايات وشراسة الجيوش، التي شنت هجماتها المدمرة على بغداد في مسلسل الغزوات الواحدة والعشرين، لكننا بحاجة إلى الإشارة إلى حجم حقدها وعدوانيتها ووحشيتها، ودورها في إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار، وكيف أسهمت في تمزيق المجتمع العراقي، وفصله عن عجلة التقدم والازدهار، فقد شهدت بغداد والمدن العراقية، في كل غارة عليها، ما لم تشهده أي مدينة من مدن العالم من أعمال العنف، والمجازر الدموية، والدمار والخراب وأعمال النهب والسلب، والقتل الجماعي والتنكيل، حتى توارثنا ثقافة الموت والدمار، ومازلنا نأسى بمعايشتها، وكانت هي الخيار البدائي الذي آمنت به معظم أنظمة الحكم المفروضة علينا، فكان البطش والظلم والتعسف والاستبداد والتسلط على رقاب الضعفاء من ابرز سجاياها،

وكانت الأمراض الاجتماعية الراسخة في عقول تلك الأنظمة كالجهل، والتخلف، والأمية من أبشع أدوات إقصاء أصحاب المهارات العالية وعزلهم، وربما اشتركت معها نوازع النفوس الأمّارة بالسوء، كالطمع والجشع والغيرة والحسد، وغيرها من إفرازات التكتلات القبلية والمذهبية، والولاءات الحزبية المتطرفة. وشر البلية ما يضحك. لأننا، وعلى الرغم من كل التجارب القاسية، التي مرت بنا. مازلنا نمارس طقوس الجاهلية الأولى في تكريس العزلة والانعزال، وتفضيل الطالح على الصالح، ومازلنا نرقد في مقابر الأقوام البدائية، التي طوقت نفسها بالحصون والأسوار، فبنينا الحواجز الكونكريتية العملاقة بين البيوت والأحياء السكنية، ونصبنا الكتل الخرسانية في الشوارع والطرق الخارجية، وصرنا أساتذة في هندسة العزلة، وخبراء في تكنولوجيا الفصل والتقطيع الديموغرافي.

 ثم رحنا نبحث في الدستور عن البنود التي تساعدنا في تقسيم العراق إلى أقاليم ودويلات وطوائف منفصلة، وحملنا معول العزل والانفصال فقطعنا أوصال مياهنا البحرية، وخسرنا نصف شط العرب في الخمسة والسبعين، وضحينا بخور عبد الله في الواحد والتسعين، وحرمنا أبنائنا من الجوازات البحرية، فانكمشت سواحلنا، واضمحلت ضفافنا، ولم تعد لدينا أية إطلالة معتبرة على بحار الله الواسعة.

وأخيرا وليس آخرا فزنا هذا العام (2010) بثلاثية الانعزال الحضاري العالمي، عندما أحرزنا الميدالية البرونزية في الفساد الإداري من منظمة الشفافية العالمية، وأحرزنا الميدالية الذهبية عن أقبح المدن والعواصم من مؤسسة (ميرسر) المعنية بمراقبة الظروف المعيشية، وتقييم جودة الحياة في المدن العالمية، وأحرزنا الميدالية الذهبية الثالثة، في النشرة التي يصدرها (مؤشر السلام العالمي)، وذلك تثمينا لجهودنا المضنية في الهبوط إلى المرتبة الأخيرة في تسلسل الدول الأكثر سلما في العالم.

وأتعس ما نمر به اليوم هو شعورنا بالعزلة والغربة داخل بيوتنا ومدننا، وشعورنا بالخذلان بين أهلنا وذوينا، أما كيف تكون الغربة في الوطن ؟، وكيف يعيش الإنسان غريبا في بلده ؟، فتلك مسألة لا يفهمها، ولا يحس بها إلا نحن الذين عشنا في العراق تعساء في أوطاننا، تعساء في منافينا، تعساء في نومنا، تعساء في يقظتنا، وكأننا خلقنا تعساء، وكتب علينا أن نعيش غرباء، ونموت غرباء، وكأن الغربة ولدت في ذاتنا، وترعرعت معنا، تنتقل معنا كالظل حيثما نكون، وستبقى معنا أينما نحل، فالغربة والعزلة سر تعاستنا، وهي اكبر كوابيسنا اليومية المزعجة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 22/آب/2010 - 11/رمضان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م