عندما يصبح الراتب الذي يعيل الأسرة لعنة وعندما تصبح البندقية رمز
المقاومة والجهاد لعنة، وعندما تُنعت مفاوضات استمرت ثمانية عشر عاما
بالعبثية، وعندما تنعت مقاومة تاريخها من تاريخ القضية بالعبثية أيضا،
فهذا معناه أن في الحياة السياسية الفلسطينية كثير من الأمور الخارجة
عن إطار المألوف في علم السياسة وفي تجارب الشعوب.
في العمل السياسي سواء على مستوى الدولة أو الأحزاب و المنظمات
والتنظيمات والجماعات، وسواء تعلق الأمر بالدول المستقلة أو بحركات
التحرر الوطني... لا يوجد نهج أو سلوك سياسي عبثي أو بدون هدف، كل من
يدخل عالم السياسة ويمارسها إلا ويسعى لتحقيق هدف أو مصلحة، تغليف
السياسة بالأيديولوجيات والأخلاق والدين وبشعارات الوطنية والقومية
ومصلحة الأمة لا يغير من الأمر شيئا، ولكن هناك فرق بين من يدخل عالم
السياسة للدفاع عن مصالح الأمة والشعب ومن يدخل عالم السياسة لتحقيق
مصالح شخصية أو حزبية ضيقة أو أيديولوجية مغامرة. لذا يجب إعادة النظر
في القول بعبثية المفاوضات الجارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين أيضا
يجب وقف القول بعبث المقاومة أو إطلاق الصواريخ.
درج كثير من الكتاب والسياسيين ممن يعارضون المفاوضات الجارية
بالقول بأنها عبثية وقد يتطرف البعض بالقول فيصفها بالفاشلة، والمقصود
بالعبثية أو الفشل أن واقع المفاوضات يتعارض مع المأمول شعبيا ووطنيا
منها. فمن يقول بأن المفاوضات عبثية يعني أنها لن تؤدي إلى سلام عادل
ولن تنجز المبدأ الذي قامت على أساسه عملية التسوية، الأرض مقابل
السلام أو هدف قيام الدولة الفلسطينية على كامل أراضي الضفة وغزة
والقدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين.
إذن هي عبثية من وجهة نظر المراقب الخارجي أو من وجهة نظر مَن هو
خارج اللعبة ويفسر ويضع المفاوضات في إطارهما القيمي والأخلاقي أو
يحاكمها من منظور المصلحة الوطنية، أما بالنسبة للمفاوضين فالأمر مختلف
فقد تكون له أهداف وطنية منذ بداية المفاوضات ثم حدث الانحراف بسبب
الجهل أو المصلحة الذاتية، أو منذ ال بداية لم تكن الدوافع والأهداف
وطنية تماما. إذن العبثية ضمن هذه الرؤية تعني عدم قدرة المفاوضات على
تحقيق مصالح وأهداف وطنية، ولكن عندما نطرح السؤال :هل كل من يفاوض أو
يقول بخيار السلام ينطلق من منطلق وطني أو صادق فيما يقول ويفعل؟ تصبح
كلمة عبثية لا معنى لها. في ظل الانقسام الفلسطيني وفي ظل تعدد وتعارض
المصالح وتداخل الأجندة الخارجية في الشأن الفلسطيني، وفي ظل وقائع
تُكرس على الأرض يجب إعادة النظر في القول بعبثية المفاوضات أو بفشل
أهداف الذين يقفون وراءها، وقراءة الأمر من منظور مختلف.
يجب إعادة النظر في توصيف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية
بالعبثية أو الفاشلة، فكيف تكون عبثية أو فاشلة وقد استمرت لثمانية عشر
عاما وما زالت مستمرة بالرغم من كل حديث عن وقفها، استمرارها والتمسك
بها يؤكدان أنها حققت وتحقق مصلحة ما ليس بالضرورة وطنية لطرفيها
ولأطراف خارجية أخرى كواشنطن. عندما نسقط صفة العبثية عن المفاوضات
يعني أنها تحقق مصالح وأهداف سياسية. فما هي هذه الأهداف ؟وما علاقتها
بمستقبل المشروع الوطني الفلسطيني؟.
المفاوضات من حيث المبدأ ليست خطأ إذا كانت جزءا من عملية سياسية
تقوم على أسس صحيحة، ولكن يبدو أن المفاوضات الجارية مع الإسرائيليين
خرجت عن فلسفة وأهداف مشروع السلام الفلسطيني الأول وأصبحت أداة في
خدمة إسرائيل وخدمة نخبة سلطة تشكلت خلال سنوات المفاوضات، وبعيدا عن
الخطاب الذي يربط العملية التفاوضية بالأهداف والثوابت فإن الواقع يقول
بأن عناصر فلسطينية من داخل الفريق المفاوض ومن داخل المنظمة والسلطة
احتكرت العملية التفاوضية وأخرجتها عن أهدافها الأول وباتت تمارس
التضليل والخداع على الشعب وربما على الرئيس أبو مازن، هذه الأطراف
أصبحت تفاوض ليس لإنجاز مشروع السلام الفلسطيني بل تفاوض لأن أطراف
خارجية تريد أن تستمر المفاوضات وبالتالي تستمر أوهام السلام، وتفاوض
للحفاظ على السلطة القائمة، سلطة توفير رواتب للمواطنين وتخفيف العبء
عن الاحتلال وخلق حالة من الاعتقاد بوجود تسوية وفرص سلام، سلطة هي
أقرب لمشروع اقتصادي لنخبة مستفيدة ويحقق أهداف سياسية لإسرائيل.
وعليه باتت المعادلة: مفاوضات مقابل بقاء السلطة والسلطة تعني رواتب
ومساعدات، وهنا تكمن المعضلة حيث أغلبية المواطنين في الضفة وغزة
يستفيدون من الرواتب والمساعدات، ولم يخف الأوروبيون والأمريكيون هذه
الحقيقية عندما صرح أكثر من مسؤول أوروبي وأمريكي بأن توقف المفاوضات
قد يؤدي لتوقف تمويل السلطة، وهو ما يؤكد عليه دوما صراحة أو تلميحا
مسئولون في السلطة يهدفون من وراء ذلك ابتزاز وتخويف المواطن الفلسطيني
الذي أصبحت حياته مرتبطة بالراتب.
إذن المفاوضات أنتجت سلطة والسلطة أنتجت نخبة والنخبة أنتجت مشروعها
الخاص الذي بات غير متوافق مع المشروع الوطني الفلسطيني وحتى مع مشروع
السلام الفلسطيني الذي يقول بالتسوية السلمية، وليس مطلوب أن يكون
مشروع السلطة في ظروفها الراهنة هو المشروع الوطني ونتمنى أن يدرك
الدكتور سلام فياض هذا الأمر. إذن هي مفاوضات غير عبثية ما دامت تفرض
وقائع على الأرض وتُغير من طبيعة الصراع مع العدو ومن الخارطة
الاجتماعية والسياسية الفلسطينية الداخلية وتنزلق بالحالة السياسية
الفلسطينية من حالة التحرر الوطني لحالة هلامية ومبهمة تخرج المواطن
الفلسطيني من كينونته وهويته الوطنية النضالية وتجعله مسكونا بلعنة
الراتب الذي تقدمه الدول المانحة، وللأسف بات هاجس قطع الراتب يثير خوف
المواطن أكثر من هاجس ضياع الوطن، وهناك عناصر في السلطة باتت متخصصة
باللعب على وتر قطع الراتب ليس فقط عن الموظف الصغير مدنيا كان أم
عسكريا، بل عن مسئولين كبار ومناضلين سابقين وقادة فصائل ومثقفين وقادة
رأي عام في الضفة وغزة وفي الشتات وجدوا حياتهم وحياة عائلاتهم مرتبطة
بالراتب، كثير من هؤلاء تشكلت لديهم روادع ذاتية تمنعهم من ممارسة أي
نقد أو تفكير عقلاني فيما آلت إليه أمورنا خوفا على راتبهم الوظيفي أو
التقاعدي أو راتب أبنائهم وأفراد عائلاتهم.
كيف باتت حياة المواطن والمناضل والمقاتل والمثقف رهينة راتب يقدمه
الأوروبيون الأمريكيون بموافقة ومساعدة إسرائيلية؟هذا جزء من عبقرية
العقل المدبر للتسوية والذي ما زال يوجه العملية التفاوضية. المفاوضات
غير عبثية لأنها وإن فشلت في تحقيق المصلحة الوطنية فهي تحقق أهدافا
لأطراف أخرى سواء بطريقة مباشرة أم بطريقة غير مباشرة، ومنها توجيه
الأمور على الأرض وخصوصا في الضفة لخدمة الدور الأردني القادم ولهذا
الدور رجالاته داخل الفريق المفاوض. المطلوب ليس فقط وقف المفاوضات إن
لم تقم على أساس مرجعيات وأهداف وطنية محل توافق وطني، بل التفكير
الجاد بكيفية مواجهة الإفرازات الخطيرة لثمانية عشر عاما من المفاوضات.
ليس هذا رفضا لمبدأ السلام والمفاوضات بل نؤكد أننا اليوم بحاجة
أكثر من أي وقت مضى لمشروع سلام فلسطيني وإستراتيجية سلام محل توافق
وطني توظف التحول الإيجاب الشعبي والدولي لصالح فلسطين وانكشاف إسرائيل
كدولة احتلال وإرهاب، التوظيف العقلاني للمواقف المؤيدة لعدالة قضيتنا
لا يكون من خلال خطاب عدمي عن المقاومة وخطاب شعاراتي يرفض السلام
والمفاوضات دون طرح أي بديل، بل بخطاب سلام عقلاني وممارسة عقلانية
توظف كل عناصر القوة والحق من وحدة وطنية وشرعية تاريخية وشرعية دولية
وكل أشكال المقاومة الممكنة. رفضنا ينصب على انسلاخ المفاوضات عن نهج
السلام والتسوية العادلة ورفضنا لأحوال المفاوض الفلسطيني الذي أصبح
ألعوبة بيد إسرائيل والرباعية.
نحن ندرك جيدا أنه بقدر ما تتجلى في القضية الفلسطينية العدالة
والحق الفلسطيني في تقرير مصيره على أرضه، بقدر ما تعرف القضية تشابكا
وتعقيدا على المستويين الإقليمي والدولي، مما يستدعي توظيف كل وسائل
وحيل السياسة لتحقيق الأهداف الوطنية، وإن لم يكن بالمستطاع ذلك الآن
فحسن إدارة الأزمة بتوظيف كل أدوات السياسة بما في ذلك المقاومة
والمفاوضات والقانون الدولي والعلاقات الدولية والعلاقات العامة الخ
كفيل بتقليل الخسائر.
إذا كان الراتب أصبح لعنة فإن البندقية أصبحت لعنة أيضا، فأن ينتظر
المقاتل أو المجاهد راتبا شهريا يأتيه من مصادر خارجية ‘فإن الحركة
التي ينتمي إليها هذا المقاتل أو المجاهد لا يمكنها أن تشكل مشروعا
وطنيا أو تقود حركة تحرر وطني. وهذا ما سنتطرق له في المقال القادم.
Ibrahem_ibrach@hotmail. com |