السجون والحرية... بلدان في مرمى سجن

إعداد: حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: في كتاب (مقاومة الاعتقال) الذي شارك في تأليفه فلسطينيون ينفذون احكاما مؤبدة، تفاصيل مواجهة المحققين ومعاناة المعتقلين ذوي الاحكام الطويلة في السجون الاسرائيلية. شارك في تأليف الكتاب القيادي في حركة فتح مروان البرغوثي المحكوم بالسجن خمسة مؤبدات، كل منها من 25 عاما، والقيادي في الجبهة الشعبية عاهد ابو غلمة والقيادي في حركة حماس عبد الناصر عيسى.

ويتناول الكتاب في 277 صفحة اساليب التحقيق المتبعة داخل السجون والتي تعتمد الترهيب والترغيب والضغط النفسي والعزل والسجن الانفرادي، كما يعرض سبل مواجهة المحققين و(سياسة الاستفزاز) التي تمارسها ادارة السجون الاسرائيلية، والاثار السلبية المترتبة على الاعتقال.

وهذا الكتاب ليس الاول في مضمونه ولن يكون الاخير سواءا في فلسطين او غيرها من البلدان العربية، الذي يحكي تجربة السجن والمعتقل، فالكثير من البلدان العربية لها سجونها وسجناءها وسجانيها الذين خرج منهم من خرج وبقي فيها من بقي، وخصوصا منهم سجناء الرأي واصحا المواقف السياسية ضد انظمة بلدانهم.

كانت السجون على مر العصور ولا زالت مكامن للظلمة المتمخضة عن نور، فمنذ السجن الأول الذي آوى يوسف الصديق عليه السلام مرورا بالحوت الذي ابتلع النبي يونس عليه السلام، لان السجون بمعنى آخر هي حيتان الأرض، فظلت الزنازين خزائن للحريات المحترفة المخبوءة والمغلفة بألم وحزن وغناء شبحي موحش يتناغم مع آلام السجناء، وإيقاع حيواتهم الرتيبة فتنطلق من تلك الخزائن الادمية اصوات باهتة متعبة تحمل في بواطنها اصرارا عجيبا على الحياة.

وتسير جحافل السنين في ممرات السجون المكتظة بالأجساد الواهنة وعوالمها الغرائبية في ردهات القاع الاسفل للمجتمعات، وفي ذلك الاتون الملتهب والمرجل الشامل المعطل للطاقات البشرية هناك تتضح قدرات الانسان في تجاوز المحن والشدائد، وكثيرا ما يقع الحيف والظلم على اناس ابرياء لم يقترفوا جرما ولكنهم تحملوا اوزار السجن وقساوته لخطأ او اشتباه فعاشوا ظلماته ماتوا وهم لا يعرفون متى سيرون النور.

وأدب السجون مصطلح يعنى بالعلوم والكتابات التي ألفت بالسجن.. ويعتبر من أصدق أنواع الكتابة وأعذبها، سواءً كان ذلك على مستوى السرد، أو على مستوى الشعر، أو بعض العلوم وذلك أنّه وليد تجربةٍ حيّة، وصادقة، فالإبداع يولد من رحم المعاناة كما يقول أصحاب السجن لذا فأن قراءة مذكّرات السجين وحدها كافيةً للمتعة والعبرة معا.

في الروايات العربية نجد هذا الجانب كثيرا، نظرا لكثرة السجون العربية وقدمها، فهذه رواية (شرق المتوسط) بكتابتها الأولى والثانية و(مجنون الامل) لعبد اللطيف اللعبي و(تلك الرائحة) و(نجمة اغسطس) لصنع الله ابراهيم و(شهادات ووثائق عن زماننا) للصحفي المصري صلاح عيسى و(القلعة الخامسة) لفاضل العزاوي و(الحصار) لفوزية رشيد وغيرها الكثيرتحكي عن تلك التجربة المريرة التي عاشها اولئك الكتاب في سجون بلدانهم.

الهدف من ادب السجون هو تصوير الحياة التي يعيشها السجين خلف القضبان لما يتعرض له من اهانات وعدم تقدير لمعنى الحرية من قبل السجانين ولو اردنا ان نجمع ما كتب عن السجون من شعر وسرد منذ فجر التاريخ حتى الان لحصلنا على موروث ضخم من العذاب والالم مبوبة بالظلم والمتفائلة بالحرية. وقد لانبالغ أذا قلنا ان الادب العربي كله ادب سجون لان المثقف العربي مقيد حتى في بيته بقيود فكرية واجنماعية واقتصادية وسياسية وفنية.

وهذا النوع من الادب لم يقتصر على اللغة العربية بل ابدع فيه بعض الكتاب الاجانب ايضا مثل بارغاس يوسا في روايته (حفلة التيس) عن دولة الدومينيكان التي يتحدث فيها بارغاس , عن فترة حكم تروخييو، الذي يقف في أعلى نقطة للهرم وبخيوط يحرك بها الوزراء و الشعب و العذراوات وفقاً لهواه من خلف نظارته الداكنة, لمدة ثلاثين عاماً زرع الرعب و الحذر حتى أنه وبعد اغتياله عجز الشعب أن يصرّف أموره بسرعة لأن عقدة الجنرال كانت ولازالت تتشبث بالفزع داخلهم.

عهد مظلم حجب الدومينيكان عن العالم الخارجي وفرضت عليها عقوبات من المجتمع الدولي الذي يرفض طاغية طالت يده الملطخة بالدماء كل أنحاء العالم لتقتل, ولأجل الوطن فقط يضحي مجموعة متآمرين بأنفسهم وعوائلهم في سبيل قتل هذا التروخييو.

وصف لنا براغاس ببراعة الراوي المتناقضات، الدكتاتورية والخنوع، القوة والخوف، والثأر والاستسلام , حلل دوافع كل ” أبطال الاغتيال ” واضطراباتهم الداخلية, وأظهر بارغاس من خلال الرواية ذلك السياسي الذي يعيش داخله كيف يفهم اللعبة القذرة تلك التي تتبدل بها الولاءات والآراء في غمضة عين أو بسرعة طلقة الرصاصة التي أنهت حياة الديكتاتور, يتنقل الراوي بين القصص الإنسانية و الأوضاع التي يعيشها الدومنكانيين مع الحظر الذي ترزح تحت وطئته بلادهم والبذخ الذي تتقلب به عائلة الزعيم بدأها بأنثى تعود لوطن كادت أن تنساه وهي محمله بوجع وذكريات مرّة عن الانتهاك الذي وقعت فيه إنسانيتها و تعود لتحمل نفسها وقد أصبحت خفيفة بعد أن أفرغت غلّها في لقاء أسري و نظرات عجوز مشلول لا يكاد يفهم شيئاً مما تقوله سوى أنها ابنته الهاربة منه ومن التيس ومن الوطن.

وفي الادب العربي نقرأ في رواية (شرق المتوسط) لـ/عبد الرحمن منيف، نقرأ قطعة أدبية عربية عن أدب، يعكس واقعًا عربيًا في شتى الأمصار العربية، وهو أدب السجون، وهو أكثر أنواع الأدب مقاربة للواقع العربي.

في هذه الرواية، استعراض لشهادة اثنين ممن تعرضوا لصنوف من الأذى النفسي والجسدي، صورة هنا وصورة هناك، مشهدٌ هنا، ومشهدٌ هناك، مرة بعين وتجربة “رجب”، ومرة بعين وتجربة أخته”أنيسة”... الألم الذي اعتصر أقوامًا، وأذلهم في المشرق... هو عينه الألم الذي سحق أماني الأطفال وأحلامهم في كثير من البلدان العربية..

ولايكتفي “منيف” في ابتكار هذا الأسلوب الروائي الشيق، بل ويتعدى ليستخدم لغة، صريحة واقعية، فيها من ملامح السجون السياسية والقمع، فيها من البذاءة والسباب والشتائم، ألفاظ لا تُقال….نعم وماذا تتوقع من السجّان الذي لا يخاف الله سوى البذاءة في الكلام، والتعنت والصلف في الأسلوب؟

هذه الرواية…باختصار “شمعة أضاءها عبدالرحمن منيف في ظلام السجون الدامس، ليفضح جزء بسيط من هذا العالم…هذا الجحيم”.

لقد كان لـ (شرق المتوسط)، مع روايات أخرى، شرف التأسيس لما سُمّي فيما بعد: أدب السجون. واصبح هذا الميدان واحداً من الميادين الأساسية للرواية العربية، كتابة وموضع إقبال واهتمام القراء. كما انتبه الكثيرون في الوطن وخارجه، خاصة بعد أن ترجم عدد من هذه الروايات إلى لغات عدة، إلى ظاهرة السجن السياسي، ومحاولة فضح الانتهاكات التي يعاني منها جميع الناس وعلى امتداد الأراضي العربية.

اقتباسات من رواية ” شرق المتوسط ” لـ عبدالرحمن منيف:

البكاء يهد أكبر الرجال، وأقصى ضربة توجه لرجل أن يرى أمه أو أخته تبكي أمامه.

إن أقوى الناس وأكثرهم قدرة على التصرف، يفقدون في لحظات معينة قدرتهم على أن يتصرفوا منفردين. يجب أن يكون أحد إلى جانبهم لكي يقول لهم مايجب أن يفعلوا.

أتتصورون أن الإنسان إذا قال شيئاً ينتهي الأمر؟ لا، الكلمة الأولى بداية لسلسة من الاعترافات، وأي تأخُّر في الاعتراف، في الإجابة، يثيرهم أكثر من الصمت. لا أقول لكم هذا الكلام إلا عن تجربة. جربت نفسي، ورأيت الذين جربوا العكس. الخرزة الأولى وبعدها ينفرط كل شيء!

الضرب لا يغير إرادة الإنسان، وربما كان العكس هو الأصح. بمجرد ما تمتد إلَّي يد امتلئ تصميماً أن لا أقول كلمة واحدة، ومع كل ضربة جديدة ازداد بعداً عن السقوط. الإنسان إرادة قبل كل شيء.

المرأة تفكر بالأشياء الحزينة. إذا لم تجد ما يكفيها من الحزن، بحثت عنه عند الآخرين.

الأيام وحدها هي التي تمزق الحنين واللوعة، وتخلق مكانهما حجارة يابسة صماء.

وهناك ايضا رواية (الأوردي.. مذكرات سجين) لـسعد زهران كتب فيها عن معتقل الأوردي في أبو زعبل في مصر.

والأوردي سجن كبير ومعسكر للتعذيب كان يضم الآلاف من المسجونين الشيوعيين في عهد جمال عبدالناصر، ولم يمنع كونه شيوعي أن يتحدث عن مايواجهه الإسلاميين من الإخوان وغيرهم من بطش وتنكيل يقارب أو يزيد عما يرونه في الأوردي.

الكتاب يتكون من 19 فصل بالإضافة إلى مقال ختامي يتحدث الكاتب فيه بالتفصيل عن السجن ومحتوياته وبعض المعلومات عن الضباط وغيرهم من إدارة السجن وينتهي بصورة مرسومة للسجن مع توضيح وتفصيل لكل المباني وماتحتويه.

الكتاب باللغة العربية الفصحى مع بعض الجمل باللهجة المصرية، الكتاب يضج ألماً وفيه أسطر تحكي قصة القهر والظلم وسطوة القوة، ولأخبركم نماذج عن السجّانين فهذا أنموذج لسجّان لم يدخل سجن الأوردي إلا لسمعته الطيبة، نقرأ من سطوره:

في إحدى الليالي اشتد المرض على سجين، فصاح زملاؤه يطلبون الدكتور… تمت الإجراءات فعلا تحت ضغط الصياح، ووجد الطبيب أن السجين قد مات وعهد كالمعتاد إلى التمرجي بتشريح الجثة، ويكتفي هو بتوقيع الأوراق. وفي الصباح حين ضرب التمرجي المشرط في بطن المتوفى بدأت الجثة في التحرك. أدرك الشاويش بسرعة أن الطبيب أخطأ في تشخيص الحالة فقد كان السجين في حالة غيبوبة بسبب شدة المرض، فلما ضرب المشرط في أحشائه حركه الألم. لم يتردد الشاويش لحظة، اتجهت يداه بسرعة نحو عنق السجين، وكتم أنفاسه حتى أجهز عليه، وهو يصيح بانفعال شديد، ارقد يا ابن الكلب!! ارقد! الدكتور كتب في الأوراق الرسمية أنك مت، موت يا ابن الكلب حتعمل مشكلة للدكتور، موت، موت..

أمّا عن معنى كلمة الأوردي وتاريخ هذا السجن فهذه أسطر تحكي شيئاً من قصة هذا المعتقل:

الأوردي كلمة تركية معناها “معسكر”. وقد كان الأوردي معسكراً لقوة حراسة ليمان أبو زعبل وقت أن كان كثير من مفردات مصلحة السجون مأخوذاً من اللغة التركية، (مثل: يَمَكْ، جراية، شفخانة).

ثم أصبح الأوردي سجناً صغيراً ملحقاً بالليمان يعزل فيه بعض المسجونين لأسباب خاصة. وقد أُودع فيه الشيوعيون المصريون أثناء الحكم الناصري مرتين: الأولى 1954 – 1956، والثانية 1959 – 1961. وأذكر أننا عثرنا في عنبر (2) عام 1955، على بقايا محتويات مخبأ قديم لمسجونين سياسيين سبقونا تدل أوراقهم على أنهم كانوا من مناضلي ثورة 1919.

اقتباسات من الكتاب:

الحرية كالحب والمعرفة نفقدها حين نغفل لحظة عن النضال من أجلها

هل يمكن أن تستمر صداقة ولدت في جو من انعدام الوزن الاجتماعي، لتعيش في جو تعود فيه الحواجز الاجتماعية إلى الظهور؟

وهناك رواية (تلك العتمة الباهرة) للطاهر بن جلون والتي تحكي معاناة سجناء قضوا عشرات الأعوام تحت الأرض في معتقل تزمامارت في المغرب أثناء حكم الحسن الثاني.

جاءت هذه الرواية بـأحداثها المؤلمة شهادة حية أخرى على تواتر (أدب السجون) والذي يعتبر حديث بـنوعه الأدبي وأخذ يشكل ملامح فنية متميزة ليس على مستوى الشكل المضمون فقط بل على مستوى الشكل أيضاً.

وأحداث الرواية واقعية ومستلهمة من شهادة أحد معتقلي سجن (تزما مارت) انقلاب انطلق من جدران قصر الصخيرات الأبيض في تموز 1971 لـ يفترش الدم أغطية الموائد وعشب الحديقة الأخضر الفاقع لـ يزج كل من نطق بـ الحرية إلى سجن (تزمامارت) ومنذ ذلك الحين توقفت سنوات عمر (المعتقل/ الراوي) خلال عشرين عاماً ثم يطلق سراحه عام 1991.

(مولود جديد عليه التخلص من ماضيه فقررت أن أكف عن استذكار أي شيء، لم أعش خلال عشرين عاماً، وذاك الذي كان موجوداً قبل العاشر من تموز 1971 قد مات ودُفن في مكان ما في جلٍ أو منبسط معشب) ، (في الجناح. ب كنا ثلاثة وعشرين نفراً، وكلٍ منّا في زنزانة، إلى الثقب المحفور في الأرضية لقضاء الحاجة، كان هناك ثقب آخر فوق باب الحديد، لادخال الهواء، ما عادت لنا أسماء، ما عاد لنا ماضٍ أو مستقبل، فقد جردنا من كل شيء ولم يبق لنا سوى الجلد والرأس).

يرى الناقد المصري(محمد أمين العالم) أن رواية السجن(تندرج أساساً في اطار الرواية الدرامية حيث أن المعتقل ذاته الحدث في حالة الفعل والحركة انه الحياة في ذروة احتدام الصراع بين الحدود القصوى لمكوناتها في مكان ضيق : الضحية في مجابهة الجلاد).

تقنيات رواية السجن تتنوع ما بين التقطيع الزماني والمكاني، وعمليات المونتاج والتداعيات والاسترجاعات والارتدادات مع تعدد الأصوات الروائية..

في رواية السجن.. الزمن داخلي.. ولا علاقة له بـ عقارب الساعة فهو يترك بصمته الواضحة على بنيتها الدرامية وهو احدى سماتها الفنية وهذا كان جلياً واضحاً في رواية (وطن خلف القضبان) للروائي السوداني (خالد عويس).

ورواية السجون، رواية تتجاوز النسق الروائي الكلاسيكي المألوف(القائم أساساً على قانون السبيبه والمتصالح أصلاً مع نمط العلاقات والمفاهيم الأخلاقية السائدة) كما تقول الروائية (فرجينا وولف).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 9/آب/2010 - 28/شعبان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م