إن الحداثة ليست صفة يتصف بها المجتمع، أو شكلا يتزنا به، وإنما هي
مرحلة يبلغها المجتمع، ويدخل بتطوره النوعي الذاتي في نمط جديد من
الحياة، قوامه الاستيعاب التام للحظة الراهنة التي يعيشها المجتمع في
مختلف المستويات، وإدراك التطورات العلمية والصناعية والسياسية
والاجتماعية..
فالظروف العامة، والعقلية التي تصاغ في خضم هذا التطور والاستيعاب و
الإدراك، هو الحداثة.. ودون ذلك لا يعني حداثة، وإنما لهثا وراء شكليات
وقشور بدون جوهر ولباب..
وهذا إضافة إلى اكلافه الاجتماعية والحضارية، فإنه لا يوصل المجتمع
إلى أهدافه.. بل هو بمثابة صب الماء في طاحونة الأزمة الاجتماعية _الحضارية
التي نعيشها..
ولقد أورد الدكتور( معن زيادة ) في كتابه( معالم على طريق تحديث
الفكر العربي) جملة من خصائص المجتمع الحديث ( العلم والمعرفة القائمة
على التجربة الحسية، وعلى الوقائع المادية الملموسة_ظهور أنظمة
اقتصادية جديدة، وأنماط إنتاج مستجدة مرتبطة بهذه الأنظمة_ طبيعة
النظام السياسي).
وعند التأمل في هذه المعالم، نكتشف أنها ليست علامات مجردة، بل هي
مرحلة تبلغها المجتمعات الإنسانية، بعد أطوار مختلفة من التطور والتقدم
في مختلف الميادين. فالاستخدام المتزايد للطاقة، والإفادة من
التكنولوجيا المتطورة، والتوجه نحو المكننة، كلها أمور وقضايا وليدة
تطور اجتماعي _ اقتصادي محدد، وليست هي أمور مجردة لا يتم البناء
التحديثي إلا بهما.
فالأبنية الثقافية والاجتماعية، هي التي تصنع تلك الأنماط
الاقتصادية والصناعية المتقدمة. وهذه الأبنية لايمكن استيرادها وإنما
هي تنبثق من أرض المجتمع وتنمو كما ينمو الكائن الحي، وتحدث الدافعية
والفاعلية اللازمة لتطوير تلك الأبنية والوصول بها إلى مرتبة أو مرحلة
متقدمة في الاقتصاد والصناعة والعلوم الحديثة.
" والمثل الساطع الذي يمكن أن نسوقه في توضيحنا لهذه الفكرة هو ما
حدث داخل الكنيسة المسيحية، صحيح أن أوروبا كانت مسيحية قبل القرن
الخامس عشر وخلال العصور الوسطى، وقد ظلت مسيحية بعد ذلك ولا تزال، على
الأقل من حيث كون شعوبها تدين بالمسيحية، إلا أن اختلاف المسيحيين في
نظرتهم إلى أنفسهم، وإلى ما يحيط بهم، وإلى دورهم في العالم وعلاقتهم
به يؤكد لنا أننا أمام رؤية مسيحية جديدة بكل معنى الكلمة وهذا ما
يؤكده (كرين برينتون) الذي يؤرخ لفكر عصر النهضة عندما يقول: إنه يبدو
أن أكثر ما كان يؤمن به رجال أوروبا ونساؤها خلال القرن الثامن عشر
وماتلاه كان متناقضا مع بعض جوانب هامة جدا من العقيدة المسيحية
التقليدية، أو إن شئت فقل إن عصر التنوير غير جذريا العقيدة المسيحية".
( راجع معالم على طريق تحديث الفكر العربي _ ص 18).
وبهذا فإن الحداثة وفق هذا المنظور، لا تتحدد في وجه واحد أو نمط
محدد..وإنما هي عملية تحمل وجوهاً متعددة، وتأخذ دورها وحيويتها في
مجالات مختلفة. فقد تكون الحداثة في تنمية الاقتصادية مستديمة، لأن ذلك
المجتمع يحتاج إلى التنمية الاقتصادية لعملية الإقلاع والوثوب الحضاري.
وقد تأخذ شكل إعداد البنى التحتية اللازمة لنظام اجتماعي جديد، يزيل
ركام التخلف والانحطاط من الجسم الاجتماعي.
وقد تأخذ شكل نهضة ثقافية، تزيل كل رواسب التخلف الفكري والثقافي،
وهكذا تتعدد وجوه الحداثة، بتعدد حاجات المجتمع ومتطلباته الأساسية. فـ
" للحداثة وجه خارجي يتجسد بالمنجزات المادية والتطورات العلمية
والتكنولوجية أي بالمحيط الإنساني، ووجه داخلي يتجلى بالسلوك والشعور
والقيم الإنسانية. فالحداثة لا تقوم بذاتها، إنها بحاجة إلى ذلك الإطار
أو النسق الاجتماعي الذي يشمل الوجهين المادي والمعنوي، وهي بحاجة
دائما إلى الإنسان المحدث تقيم معه تلك العلاقة الجدلية الضرورية التي
تغذي الطرفين..
الإنسان المحدث لا يولد من العدم، إنه بحاجة دائما إلى تلك الشروط
المادية التي تجسد الحداثة الخارجية كما سميناها، وهذه بدورها لا تقوم
بدون الإنسان الفاعل المنفعل بها".. (المصدر السابق ص 69).
وبالتالي فإن الحداثة وفق هذا المفهوم، تعني المساهمة والمشاركة في
صنع الحاضر في مختلف الحقول والمجالات.
فعلى المستوى الثقافي، فإن الحداثة تقتضي رفض الجمود والانغلاق،
والقبول بمبادئ الانفتاح والتفاعل مع الثقافات الإنسانية. وعلى المستوى
الاجتماعي تعني: إطلاق الحرية وفسح المجال لكل التعبيرات الاجتماعية من
القيام بدورها، وفق تصورها ومرجعيتها الثقافية. وعلى المستوى السياسي
تعني: القبول بنتاج وإبداع الفكر الإنساني في هذا الحقل. وهكذا بقية
الجوانب والحقول.
فهي مشروع نظري مفتوح، على كل قيم المساهمة والمشاركة، وضد الجمود
والتكلس والهروب من الواقع والابتعاد عن معادلاته وتحدياته.
وهذا بطبيعة الحال يعني النقاط التالية:
1- إن الحداثة لا يتم استيرادها من الخارج, بل تنبثق انبثاقا من
المجتمع. بمعنى حدوث جملة من التطورات في مختلف المجالات والجوانب،
بحيث يصل المجتمع إلى مستوى الدخول في عالم الحداثة ومتطلباته
الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
ولعل الخطيئة التاريخية الكبرى, التي وقعت فيها الكثير من البلدان
العربية والإسلامية، حينما تعاملوا مع الحداثة، باعتبارها مجموعة من
السلع والمواد التي يمكن استيرادها من موطنها الأصلي. إذ أن هذه
الخطيئة أوهمت الكثير، وجعلتهم يلهثون وراء عمليات الاستيراد للسلع
الموصوفة بالحداثة. دون أن يبذلوا جهوداً حقيقية، في سبيل استنهاض
القدرات الذاتية في المجتمع، للوصول إلى مراحل متقدمة في التطور
الإنساني.
2- إن الحداثة كمرحلة يبلغها الاجتماع الإنساني، بحاجة إلى توفير
الشروط الثقافية والاجتماعية لبلوغها.
إذ لا تتم التطورات الاجتماعية صدفة، أو بدون توفير مقدماتها. وإنما
هي بحاجة إلى توفير كل العوامل والشروط التي تؤهل الاجتماع الإنساني
إلى بلوغ عالم الحداثة.
من هنا فإن الحديث عن الحداثة وضرورتها وثمارها العامة، دون توفير
مقدماتها وشروطها الاجتماعية ومناهجها الثقافية، يعد جهدا ضائعا، أو في
أحسن الحالات لا يوصلنا إلى مرادنا العام.
إن مشروع الحداثة، لا ينجز في الساحة الاجتماعية، إذا لم تتوفر
ثقافة تدعو إليه، وتوضح سبل الوصول إليه، وإذا لم يكن هناك الوعي
الاجتماعي المناسب، الذي يحتضن كل المناشط التي تصب في هذا السبيل.
ويضاف إلى كل ذلك، وجود روح معنوية رفيعة لدى أبناء المجتمع، بحيث
ينطلقوا منها لاستيعاب التطورات، وتجاوز العقبات، وصناعة المنجز
الحضاري.
3- لم تعد أشكال الحداثة وسلعها الصناعية والتكنولوجية، محصورة في
المجتمعات والأمم ذات التقدم العلمي والصناعي الهائل.. بل أصبحت متوفرة
في الكثير من المجتمعات والأمم بصرف النظر عن درجة تقدمها العلمي
وتطورها التقني. من هنا وحتى لا تكون علاقتنا بهذه الأشكال والسلع،
علاقة شكلية ولا تتعدى الاستفادة المادية منها، دون الاستفادة من
الخلفية الثقافية والحضارية، التي أنتجت تلك الأشكال والسلع، من
الضروري أن نحدد طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تربط المواطن العربي بسلع
الحداثة وأشكالها، حتى نضمن تناغما محمودا وفاعلية دائمة في علاقة
المواطن العربي بسلع الحداثة.
ولكي نتمكن كمواطنين عرب من الاستفادة القصوى من هذا التقدم العلمي
والتكنولوجي في شكله المؤسسي. |