لبنان يتخلى عن تراثه ويرتدي ثوب العصرنة

 

شبكة النبأ: تتجه مباني بيروت القديمة الأنيقة نحو الانقراض كأحد أنواع الكائنات المعرضة للخطر.

وفي طفرة بناء أذكاها الاقتصاد المنتعش وأموال المستثمرين الخليجيين واللبنانيين استطالت الأبراج الشاهقة في أنحاء العاصمة اللبنانية وكثير منها بني على أطلال التراث المعماري المهدم لبيروت.

وتحاول قلة من المهتمين بالحفاظ على التراث إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الدمار لكن في مدينة يحكمها المال ربما يكون قد فات الأوان.

التراث المعماري

حيث تقول ريما شحادة من مؤسسة التراث وهي مؤسسة خاصة ان بيروت أصبحت شديدة القبح وأضافت أنها تعلم أن بيروت ستستمر لكنها لن تتمتع بنفس السحر الذي كانت عليه من قبل.

وتجمع شحادة ملفات لتأمين حماية رسمية لبضعة قصور متهالكة ترجع الى الحقبة العثمانية في حي زقاق البلاط ويعوق مسعاها الروتين والفساد والافتقار الى قانون يحمي التراث.

ونجت بضعة مبان لبنانية قديمة بنوافذها المميزة وشرفاتها الواسعة وأسطحها المكسوة بالقرميد الاحمر لكن تحجبها الان المباني السكنية الخرسانية. ويعني اي مؤشر على الاهمال الآن أنها في طريقها للزوال.

وتغري أسعار الاراضي الباهظة أصحاب العقارات في بيروت. ولديهم الكثير من الحوافز لبيع المنازل القديمة للمطورين العقاريين الذين يهدمونها لاقامة مبان شاهقة دون التقيد بقواعد تقسيم المدينة الى مناطق ودون اعتبار للارتفاعات المناسبة للبشر. بحسب رويترز.

وقالت منى حلاق وهي مهندسة معمارية تعمل مع اقدم جمعية لحماية التراث في لبنان ان المال هو مربط الفرس.

وتسارعت وتيرة طفرة البناء في العامين الاخيرين فيما خرج لبنان من الازمة المالية العالمية دون أن يصيبه سوء بينما تضررت من جرائها قطاعات العقارات الخليجية في دبي وغيرها.

ولبنان الذي لا يزال يقوم بعمليات اعادة اعمار بعد حربه الاهلية التي استمرت من عام 1975 الى عام 1990 قد يبدو ملاذا غير مستقر للاستثمار.

وقبل أربعة أعوام فقط كانت القوات الجوية الاسرائيلية تقصف جنوب بيروت وتحوله الى أنقاض خلال حرب مع حزب الله. وكادت حرب أهلية جديدة تندلع عام 2008 .

والان تعيش البلاد فترة راحة من انعدام الاستقرار مما أدى الى نمو الاقتصاد بنسبة مذهلة بلغت تسعة في المئة عام 2009 وربما تبلغ ثمانية بالمئة في العام الحالي.

وتخترق مبان شاهقة جديدة أفق بيروت من بينها برج سما بيروت المكون من 50 طابقا والذي سيكون أعلى برج في العاصمة اللبنانية ويبلغ ارتفاعه 200 متر.

يهدر صخب أعمال البناء وأتربتها فوق الشوارع الضيقة والمنازل الصغيرة والحدائق التي كانت تمثل يوما زاوية حميمية بحي الاشرفية الذي يغلب على سكانه المسيحيون.

والكثير من الابراج الفاخرة في بيروت شبه خاوية اذ أن الشقق مملوكة لخليجيين او مغتربين لبنانيين لا يستخدمونها الا لبضعة أسابيع في العام. ولا يقدر المواطنون اللبنانيون العاديون على ثمنها.

وقالت ايميلي نصر الله وهي روائية متقدمة في السن أمضت معظم حياتها بالمدينة ان هذا أمر محزن جدا وان السكان يخسرون الحي ويخسرون نسيج الحياة العادية الطبيعية التي كان الناس يعيشونها دائما في بيروت.

وتنبه بعض اللبنانيين الاصغر سنا الى التغيرات المفاجئة في نسيج المدينة التي يعيش بها نحو 1.5 مليون نسمة.

على سبيل المثال باسكال اينجيا وهي فنانة ومدرسة (33 عاما) أنشأت مجموعة على موقع فيسبوك باسم (اوقفوا تدمير تراثكم) في مارس اذار للتعبير عن الغضب من عمليات الهدم التي لا تتوقف في حي الاشرفيه الذي نشأت به.

وقالت وهي تجلس في الدور العلوي من ورشتها في مبنى قديم "ذات يوم سئمت كوني مواطنة سلبية."

حكت اينجيا كيف وقفت عاجزة لتشاهد من شرفتها العمال وهم يهدمون مبنى رائعا يرجع الى القرن التاسع عشر كانت تراه منذ طفولتها. وأضافت "حلمت بشراء هذا القصر وترميمه وتحويله الى أكاديمية للفنون الجميلة."

وهي تتعاون مع ناجي راجي (22 عاما) الذي يطوف في أنحاء بيروت وكأنه عين نفسه مسؤولا عن حماية التراث باحثا عن اي اشارة قد تكشف عن اقتراب موعد هدم مباني مهيبة ويلتقط لها صورا فوتوغرافية يقدمها كدليل حين يتصل بوزارة الثقافة طالبا تدخلها.

وقال "نعمل بجد حقا" واصفا صراعا للتفوق على دهاء المطورين العقاريين الذين يختارون أوقاتا غريبة مثل ليالي الاحد لهدم المباني من الداخل وتحويل المنازل القديمة الى هياكل.

وفي الشهر الحالي أطلقت جماعات حماية التراث حملة توعية تحمل صورة لشواهد أضرحة للمباني القديمة التي تم هدمها في الاونة الاخيرة وسط خلفية من ناطحات السحاب الداكنة.

وقد حصلت تلك الجماعات على دعم وزير الثقافة اللبناني سليم وردة الذي عقد العزم على وقف هذا الدمار.

ويجب ان يحمل اي أمر هدم الان توقيعه. كما يضغط على البرلمان لسن قانون يعطي اعفاءات ضريبية وحوافز أخرى لملاك المنازل التراثية.

وقال وردة "هذه المباني جزء من كنوزنا الوطنية ومن هويتنا ومن نحن... وبالتالي نحن لا ندمر خشبا وحجرا بل جزءا من بيروت وجزءا من التراث المعماري الذي ترك لنا لنحافظ عليه."

وأضاف "نحن الدولة العربية الوحيدة التي لم تمرر قانونا للحفاظ على المباني التراثية... هذا شيء مخز."

وحتى اذا مرر القانون الذي ظلت نسخة منه أعدت في وقت سابق منذ عام 1997 مهملة فان تطبيقه سيستغرق عدة أعوام وقد يستغل مشترو المنازل القديمة الذين يتمتعون بعلاقات جيدة فارقا زمنيا بهذه القوة.

وقالت منى حلاق المهندسة المعمارية "أحلم بأن أرى شارعا وحدا سليما في بيروت خلال 20 عاما. انها أضغاث احلام حقا."

قضت منى حلاق 13 عاما في الكفاح لانقاذ مبنى تاريخي وحيد كان القناصة يستخدمونه خلال الحرب والان من المقرر أن يصبح متحفا بدعم مالي فرنسي.

وقالت "ماذا بوسعنا أن نفعل غير هذا.. كل شيء في المدينة للبيع التاريخ والهوية وروح المدينة."

وتجادل منى حلاق من أجل الحفاظ على الاحياء القديمة النابضة بالحياة وليس مبان بعينها لميزة معمارية خاصة.

وقالت "نحتاج الى كتلة حضرية تحافظ على روح المدينة بحدائقها ومنازلها والناس الذين يعيشون بها.التركيبة كلها."

وقبل 13 عاما سجلت جماعتها أربعة أحياء من هذا النوع بها 520 مبنى تستحق الحفاظ عليها وقالت "نعلم أن 70 من هذه هدمت. البقية في الطريق."

وبالنسبة للمهندسة المعمارية وخبيرة التخطيط المدني سيمون قصرملي فان أوان انقاذ تراث بيروت قد فات وستبقى بضع جواهر بفضل ملاكها الذين يقدرونها لكن الدولة فوتت منذ زمن طويل فرصة شراء المباني القديمة لتخصيصها لاستخدامات عامة.

وقالت "هذا مستحيل اليوم" مشيرة الى الاسعار الفلكية للاراضي التي ليست في متناول الحكومة التي لا تملك المال.

وأضافت قصرملي أن على لبنان أن "يقلل حجم الكارثة" على الاقل من خلال انقاذ المنازل القديمة بالقرى الجبلية حيث الاراضي أرخص كثيرا وحيث يمكن أن تبقى العمارة الشعبية.

البيوت التراثية

في العام 1995، جمّد وزير الثقافة ميشال إده عمليات الهدم بحق 1016 منزلا قديمًا في بيروت استنادًا إلى توصيات جمعية حماية المواقع والمنازل القديمة في لبنان.

لكن هذا القرار الوزاري أعطى مفعولاً عكسيًا إذ سارع العديد من المالكين إلى هدم منازلهم القديمة خشية أن يشملها قرار التجميد وباعوا أرض منازلهم إلى سماسرة عقاريين لقاء مبالغ طائلة.

وبعد سنتين على قرار التجميد، أجريت دراستان من جانب هيئات حكومية، تمّ على إثرهما تخفيض عدد المنازل المحمية بشكل حاد.

وهكذا، لم يعد سوى 520 منزلاً محميًا في العام 1997. رقم هبط بعد سنة إلى أقل من النصف. ففي العام 1998، تم إدراج مجرد 209 مبانٍ أثرية على قائمة المباني المحمية من أصل 1016 كان ممنوعًا في الأصل هدمها.

في العام 2007، تقدّمت الحكومة بمشروع قانون لحماية المنازل القديمة لكن لم يجرِ بعد التصويت على هذا المشروع في البرلمان.

وفي الأول من يوليو الماضي، أطلقت عدة فعاليات من المجتمع المدني حملة إعلامية واسعة بغية تطبيق قوانين تحمي التراث المعماري في لبنان كما لتوعية اللبنانيين بشأن المخاطر المحدقة بهذا الإرث الهندسي الذي يذهب أدراج الريح.

عقارات برسم البيع

من جهتها تقول السيدة مها عواضة وهي في الثامنة والعشرين من العمر، تعيش في بيروت عن عمليات الهدم في منطقتها، تتحسر قلوب العابرين في شوارع بيروت لدى رؤيتهم عمليات تدمير المباني التراثية التي تقوم بها الجرافات في أحياء متعددة من العاصمة.

على بعد مسافة قصيرة من منزلي تقع محلة زقاق البلاط التي مررت، قبل أيّام، بأحد شوارعها بالصدفة وأدهشني ما رأيت من فن هندسي تقليدي. فقد تبين لي بعد الاطلاع على تاريخ هذه المنطقة أنها كانت مرتعًا للعائلات البيروتية البرجوازية التي بنت القصور والمباني الفخمة كما استقرّت فيها المدارس والإرساليات بدءًا من العام 1840 م. وفضلاً عن الطبقة المخملية، سكنت زقاق البلاط شخصيات أدبية وسياسية وفنية بارزة بينها السيدة فيروز والشاعر بشارة الخوري الملقّب بالأخطل الصغير.

وتضيف، في الدراسة التي أجريت عام 1995، تم رصد 94 مبنى للحماية في "زقاق البلاط". لكن في دراسة العام 1998، هبط هذا الرقم إلى النصف وتحديدًا إلى 40 مبنى، جرى حتى الآن هدم أربعة منها.

اليوم، معظم البيوت التراثية والقصور في المنطقة مهملة ومهجورة بسبب عدم فرز الحصص بين ورثتها وهي بالتالي تنتظر الهدم. فندرة الأراضي الصالحة للبناء جعلت تراث بيروت المعماري عقارات برسم البيع... يشتريها بأبهظ الأثمان أشخاص غالبًا ما يكونون من غير اللبنانيين. أما البيوت التي تم ترميمها فهي قليلة وقد تحول قسم منها إلى مراكز ثقافية أو مدارس".

قرية الكواشرة

 على صعيد متصل منذ ان غابت الامبراطورية العثمانية وانطفأ سلطانها بقيت اكثر من اربعمئة عام ذكرى لها عند اطراف لبنان الشمالية هي عبارة عن قرية من لحم ودم وبيوت وسكان يحملون الهوية اللبنانية لكنهم ناطقون باللغة التركية الى جانب لغتهم العربية.

بلدة الكواشرة في عكار بشمال لبنان تعتبر اليوم وديعة تركية بانتماء لبناني انقطعت صلة مواطنيها بتركيا بعد خروج الجيش العثماني من لبنان لكن الاتراك عادوا لمعاملتها منذ فترة بوصاية انسانية وليس بفرمان عثماني صادر عن الباب العالي.

ويفاخر اهل القرية بجذورهم اذ تقول الكسندرا رحيم "نحن اصلنا اتراك وهذا الشيء يساعدنا كثيرا من اجل أن نسافر الى تركيا والدولة التركية تدعمنا وتنمي الضيعة."

وعندما زار وزير خارجية تركيا احمد داوود اوغلو لبنان في يوليو تموز الماضي تفقد قرية الكواشرة اضافة الى بلدتي عيدمون والبيرة المجاورتين اللتين تضمان بعض السكان من اصل تركي. بحسب رويترز.

كما ان السفارة التركية في لبنان على تواصل تام مع هذه البلدات وقد بنت لبلدة الكواشرة مدرسة ثانوية بكل تجهيزاتها وارسلت مدرسا للغة التركية الحديثة وفتحت مشاريع المياه والطرقات والبنية التحتية.

وقال خضر خالد عبد الله الطالب الثانوي "نحن بلدة من لبنان معروفة انها تركمانية واجدادنا لا زالوا يتحدثون باللغة التركية ودولة تركيا تقدم لنا منحا دراسية الان من اجل اكمال دراستنا عندها. هذه المدرسة بناها لنا الاتراك ويعدوننا بالمزيد من المنح لاكمال دراستنا."

اضاف "نحن لا نزال نحافظ على اللغة التركية وبعثت لنا السفارة معلما لكي يعلمنا التركية الحديثة لان لغتنا التركية في الضيعة هي القديمة لغة الاتراك القدماء."

ويجلس كمال يوسف الرجل التسعيني وسط احفاده يتحدث معهم بالتركية وهم يشاهدون احد المسلسلات التركية المدبلجة باللهجة السورية والمنتشرة بكثرة في لبنان قائلا لزواره بالتركية "غوش غالدن" اي اهلا وسهلا.

وقلما يتذكر يوسف الطويل القامة الذي يحمل تجاعيد السنين ويرتدي الزي التركي القديم تركيا من دون ان يجهش بالبكاء وهو لا يزال يتلو الاشعار باللغة التركية متذكرا قصة رجل تركي احب امرأة عربية ولم يسمح له اهلها بالزواج منها.

كما انه لا يزال حتى الان يحتفظ بوثائق وسندات ارض وعملة تركية ختمت بعبارة "الدولة العثمانية الرشيدية" كشاهد على ان " الاتراك كانوا يوما هنا"

ويعمل اهالي الكواشرة وعيدمون والبيرة بالزراعة وتربية المواشي بعدما كانوا قديما يعملون في حياكة السجاد التركي.

ويرغب القليل من اهل الكواشرة بمواصلة تعليمهم ويفضل الكثير منهم العمل في القرية او الانضمام في صفوف الجيش اللبناني.

ويعكف اكثر من سبعين تلميذا على دراسة التركية الحديثة في المدرسة وفي مقر البلدية حيث قال استاذ اللغة التركية الذي ارسلته السفارة التركية الى الكواشرة يوجال اكتشا عبر مترجم "اتيت الى لبنان عن طريق السفارة التركية في لبنان منذ سنة ونصف وبقي لي هنا ثلاث سنين ونصف."

اضاف "بدأت بتعليم اللغة التركية في طرابلس في جمعية الصداقة اللبنانية- التركية وفي عكار (الكواشرة البيرة وعيدمون) وكان التلامذة ضعيفين في البداية واصبحوا جيدين الان وقد زادت نسبة التلاميذ الذين انضموا الى صف اللغة التركية."

وشرح محمد عبد الكريم محمد رئيس بلدية الكواشرة تاريخ القرية مشيرا الى ان تعدادها يبلغ اكثر من ثلاثة الاف نسمة وقال "اجدادنا اتوا الى الكواشرة.اثنان منهم اتيا الى البيرة وعيدمون نزحوا من تركيا واتوا الى هنا على ايام الحكم العثماني منذ حوالي 450 سنة بقوا هنا واستوطنوا هنا في المنطقة وعاشوا على التقاليد اللبنانية والتركية وما زالوا حتى الان يتداولون اللغة التركية".

اضاف، "هناك لغة محلية في الكواشرة هي اللغة التركية كلهم يتحدثون مع بعضهم فيها. مازالوا حتى الان من الكبير للصغير يحكون اللغة التركية."

وقال انه لم يبق من الجذور التركية تقريبا الا اللغة "ولكن هناك تواصل بيننا وبين السفارة التركية دائما ويقدمون لنا المساعدات على قدر استطاعتهم...كل سنة يقدمون لنا من سبع الى ثمان منح للذين يريدون اكمال تعليمهم الجامعي في جميع المدن التركية ... اولادنا نحو 50 طالبا يكملون تعليمهم في تركيا."

ومضى يقول "عندما زرت اسطنبول في العام 2009 احسست نفسي انني في الكواشرة. لم يتغير علي شيء. كلغة اتكلم مثلي مثلهم وبنفس الوقت الاكل لم يتغير علي والعادات والتقاليد تقريبا هي نفسها.

"نحن وطننا الاول لبنان ...ونحب وطننا وبلدنا ونشعر بالحنين الى تركيا فجذورنا واجدادنا القدماء من تركيا."

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 26/تموز/2010 - 14/شعبان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م