فرنسا... انحدار مستمر نحو العنصرية

 

شبكة النبأ: هناك دلائل دامغة تشير الى تراجع الحريات في فرنسا على نحو مؤسف ومخيف في آن واحد، فهذا البلد الذي وضع أسس الكثير من الحريات عبر مبادئ الثورة الفرنسية المعروفة، آخذ بالتهاوي نحو درك العنصرية القاتل من دون أن يثير هذا التراجع الخطير حفيظة المفكرين والاحرار في فرنسا او أوربا إلا ما ندر، وكأن ما يحدث أمر طبيعي لا يثير الأسى او القلق الانساني على حاضر ومستقبل شعب أحبته الشعوب الاخرى وتباهت به كونه شعبا حرا متجددا قدم للانسانية دروسا رائعة في التحرر والانفتاح والتنوع والتعايش القائم على التوادّ والتفاهم والانسجام.

ومن ينسى تلك المقولة الخالدة لأحد أبرز المفكرين الفرنسيين حين قال، أنا أخالفك في الرأي ولكنني أقاتل من أجل أن تقول رأيك، فهل يصح أن يتحول شعب مثل فرنسا الى بؤرة من المشاحنات والتعنصر والتخوّف من الآخر، وهل يصح أن تُستثار فوارق عفا عليها الدهر مثل فوارق العرق او الدين او اللغة او الجغرافيا وما شابه؟.

وفي نظرة الى ما يحدث بين اوساط الشعب الفرنسي فإننا نستطيع أن نرى بوضوع تصاعد النفس العنصري فيه وبين مكوناته كالظاهرة التي برزت ضد سكان الضواحي او الوافدين من الأفارقة والآسويين وغيرهم، ناهيك عن الكراهية الغريبة التي بدأت تتصاعد ضد المسلمين من دون مبررات تستحق ذلك، والغريب أن الحجج التي تقوم عليها هذه المسارات والتوجهات المرفوضة غالبا ما تكون هشة ولا تليق قط بشعب علّم الآخرين أثر الحرية ودورها العظيم في صنع المجتمعات الراقية.

ولو تأنينا قليلا وألقينا النظر على طبيعة ما يدور بين اوساط المجتمع الفرنسي بهذا الخصوص سنجد تراجعا مخيفا للحريات الشخصية كما حدث مع الدعوات المحمومة ضد الحجاب والنقاب على سبيل المثال، وهكذا نلاحظ أن الشعب الذي كان مضربا للامثال في مجال الحريات الشخصية يتدخل في أدق تفاصيل هذه الحرية تحت حجج واهية لا ترقى قط الى روح المبادئ التي تدعو الى منح الانسان حرياته كاملة من اجل الابداع والتطور المتواصل.

وليس غريبا في ظل هكذا مسارات حادة ومتضاربة في الاتجاهات والنوايا أن تصل الخلافات والمكائد الى أدنى المنظمات عددا او دورا كما هو الحال مع لاعبي فريق كرة القدم الفرنسي والصراع العرقي الذي دار بين أفراده والنتائج الوخيمة التي تعرض لها هذا الفريق باعتباره صورة مصغرة للخلافات والتضاربات التي حدثت ولا زالت تحدث بين او ساط الفرنسيين عموما.

في وقت نجد الحالة المضادة تماما في ألمانيا ونسيجها الاجتماعي المتماسك على الرغم من تنوعه وتعدد أصوله ومكوناته المختلفة، حيث بلغ الانسجام والتوائم بين شرائحه درجة عالية، لهذا تميز الألمان بالذوبان السريع والتداخل المنسجم بين الجميع من دون أن تظهر على السطح نعرات عنصرية لا تليق بالبلدان المتحرة. حيث تتقدم ألمانيا وشعبا على تعدده وتنوع أطيافه نحو الاندماج والتمازج الخلاق ليشكل صورة اجتماعية رائعة تليق بالمجتمعات العصرية التي تتخذ من الحرية والتحرر بأنواعه سبيلا الى الابداع والرقي والسمو نحو التوحد الخلاق تحت خيمة الاختلاف العرقي او غيره.

والمؤسف هنا ما يقوم به الساسة من قادة فرنسا لتأجيج هذا النفس العنصري من خلال صب زيت الخلافات والتفرقة بين مكونات المجتمع بدلا من الحد من هذه التوجهات ذات الطابع الشوفيني المريب، فترى رئيس الوزراء مثلا يحرّض على وجوب تشريع القوانين والسنن التي تتدخل بصورة سافرة بحرية الفرد ناهيك عن التفرقة فيما يخص فرص العمل وما الى ذلك بين المهاجرين والسكان الاصليين.

وهكذا تكون فرنسا المعاصرة صورة مناقضة تماما لصورة فرنسا قبل قرنين وما تلاهما أيضا حيث التحرر والابداع بلغ اوجه وبرز من هذا الشعب مفكرون أفذاذ وساسة لن يغفل التأريخ ذكرهم كديغول الذي لا تزال آثاره تتوسد الذاكرة البشرية على الرغم من الهبوط الحاد لقيم الحرية في بلد وشعب كان يرفل بعزها حتى وقت قريب بل قدمها كأروع المبادئ الانسانية في محراب التحرر والابداع.

وعليه لابد من تنبّه واستنفار المفكرين الفرنسيين نحو هذا الانحدار المريع باتجاه المربع الاول حيث العنصرية والتكميم والتمايز في اوجها، وتعديل المسار نحو الاهداف الكبرى للثورة الفرنسية التي قدمت للبشرية ما لا يمكن نسيانه في مجال الحريات عموما، وما هذا الإرتداد الراهن نحو التعصب والكبت إلا ظاهرة شائنة ومخيفة في آن ولا يمكن أن تليق ببلد الحرية الخلاقة التي أسهمت في بناء الركائز المتحضرة للانسان، كما ينبغي التنبه الى المؤشرات العنصرية التي تتجاوز على الحريات كمنع النقاب ومحاربة الحجاب والمسلمين عموما تحت حجج واهية لا تليق بفرنسا وتأريخها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 25/تموز/2010 - 12/شعبان/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م