يتساءل البعض عن جدوى أحياء مناسبات أئمة أهل البيت (عليهم السلام)،
ولسان حالهم: ماذا سنستفيد من هذا الصنيع؟ ولماذا نهدر أموالنا،
ونُفرِّط في أوقاتنا من أجل تخليد ذكراهم، وهم أموات، لا يفيدوننا
بشيء؟ وحق لأولئك أن يتساءلوا، وعلى الموالين أن يعذروهم.
إذًا، والحال هذه، فعلى محبي أهل البيت (عليهم السلام)، تبيان
المغزى والهدف من فلسفة الأحياء، فإن الناس لو عرفوا محاسن كلام أئمة
الهدى لما مالوا لسواهم، وهذا الدور يجب أن يتحمله كل واحد منّا بقدره،
ولا يقول أحدكم: وماذا بوسعي أن أفعل، وما أنا إلا قطرة صغيرة، قد
تتبخر قبل أن تلتصق بالأرض؟ هذا المنطق، -كما ترون- منطق الكسالى
والخانعين، والصحيح أن القطرات تصنع شلالاً هادرًا ومدويًا، فلنساهم
جميعًا في إيجاده.
لا يكفي التغني بفضائلهم:
أحبتي.. إننا نجتمع في مثل هذه المناسبة من أجل تحصيل الألطاف
الربانية، حيث أمرنا أن نحيي أمر أئمة الهدى (عليهم السلام)، ووعدنا أن
ننعم بالرحمة الإلهية، بناءً على مقولتهم: «أحيوا أمرنا، رحم الله من
أحياء أمرنا».. ولا نشك أبدًا بأن رحمةِ الله تشملنا، ونحن نمكث في هذا
المكان المبارك. ولكن، هل يكفي أن نتغنى بمكرمات أهل البيت (عليهم
السلام) وفضائلهم، ونستحضرها أما أننا مطالبون بتطبيقها في واقع حياتنا؟
دعونا نتساءل بصدق:
هل يصح أن نتغنى ببطولة أبطال كربلاء، ونحن نعيش الخوف والخنوع؟
أو أن نتغنى بكرمهم ونحن نسير على خُطى البخلاء؟
وماذا عن سيرة أبطال كربلاء الأخلاقية، أين نحن عنها؟
من المعيب حقًا، أن نستحضر مناقبهم، ونحن أبعد الناس عن تطبيقها؟
ولكي نكون صادقين مع أنفسنا علينا أن نقتبس شيئًا من نورهم إذ هم
المعنيون بقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ}[الأنعام:90].
فلنقتبس ممن نحتفي بذكراهم بما نقدر على استلهامه منهم، وكما يقول
الإمام علي (عليه السلام): «ألا وإنّ لكلّ مأموم إمامًا يقتدي به
ويستضيء بنور علمه... ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع
واجتهاد وعفّة وسداد».
فهل نعقد العزم أحبتي على أن نستلهم من الإمام الحسين (عليه السلام)
قول كلمة الحق في وجه السلطان الجائر؟ وهل نستلهم من العباس روح
المبادرة إذ لم يقوَ على احتمال عطش الأطفال فسلّ سيفه، وقاتل الأعداء
بعد أن قال لأخيه الحسين: «أما أنت فصبرك يزن الجبال»، فهل نستلّ في
أضعف الإيمان أقلامنا لننتصر لقضايانا، كم استلّ العباس سيفه؟ وهل
نستلهم من زين العابدين السجّاد (عليه السلام)، شيئًا من عبادته وزهده؟
دعونا نقرر منذ هذه اللحظة، أن نستلهم من كل بطل من أبطال كربلاء
خصلة من الخصال، وننميها في أنفسنا؛ لنكون من الصالحين المصلحين، وإلا
سنكون -شئنا أم أبينا- من التعساء الطالحين.
ثقافة المبادرة:
يقول الإمام علي (عليه السلام): «ولا يقولن أحدكم أن أحدًا أولى
بفعل الخير مني فيكون والله كذلك».
هذه الكلمة يجب أن نجعلها قاعدة نتكئ عليها في العمل والمبادرة
لتغيير الواقع السيئ الذي نعيشه، حتى ننتقل بأحوالنا من الظلمات إلى
النور، أوليس الله ولي الذين آمنوا، يُخرجهم من الظلمات إلى النور؟
فبالتوكل على الله تعالى، وبالمبادرات الخيرّة، بإمكاننا أن نسهم في
تقديم ما فيه صلاحنا وصلاح مجتمعاتنا، ولنا في أهل البيت (عليهم
السلام) خير الأمثلة، فالحسين (عليه السلام)، لم يقل بأن فلان أو فلان
أولى بفعل الخير مني، وإنما بادر للتغير، بعد أن رأى السنة قد أُميتت،
والبِدعة قد أحييت، وقال محددًا الهدف من ثورته: «إني لم أخرج أشرًا،
ولا بطرًا، ولا مفسدًا، ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة
جدي (ص)، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي
علي بن أبي طالب».
الإمام الحسين (عليه السلام) بادر وبمبادرته استطاع أن يحافظ على
نقاء الشريعة وطهرها، بعد أن التف حوله ثلة من أبطال كربلاء الذين
نُقشت مناقبهم في قلوب أحرار العالم.
الإمام السجاد (عليه السلام) وثقافة المبادرة:
وعن روح المبادرة عند الإمام السجاد (عليه السلام)، يكفي أن نتتبع
موقفه وخطابه في مجلس الطاغية يزيد بن معاوية، وكيف أنه قلب المعادلة
على يزيد والأمويين إلى يوم الدين، إذ اشتبه عليهم الأمر؛ فحسبوا
هزيمتهم انتصارًا، وكما يقول الشاعر:
ظنوا بأن قتل الحسين يزيدهم لكنما قتل الحسين يزيدا
وعن مبادرات الإمام السجاد (عليه السلام) الاجتماعية، يكفي أن نعلم
أن كذا بيت من بيوت المدينة كان رزقهم يأتيهم بين أيديهم، ولما مات سيد
المبادرين وزين العابدين (عليه السلام)، فقدوا رزقهم؛ فعلموا أنه صاحب
اليد الحانية عليهم.
واختتم حديثي عن المبادرة، بمبادرة الإمام السجاد (عليه السلام)،
الذي عمد لاحتضان عدوّه (مروان بن الحكم) عندما فرّ هاربًا من بطش
الثوّار في وقعة (الحرّة)، فاستغاث بعبد الله بن عمر بن الخطاب، ولم
يجبه، فأغاثه الإمام وأضافه إلى أهله، فأي أحسان هذا، الذي يجعلك
تتعالى على جراحك، التي لم تندمل بعد؟!
نسأل الله أن يجعلنا ممن يسير على خُطى الحسين (عليه السلام)
وأصحابه الكرام البررة، الذين هم المصداق الأقرب لقوله تعالى:
{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}[الأنبياء:90]،
والسلام عليكم أيه الحفل الكريم جميعًا ورحمة الله وبركاته.
*كلمة ألقيت في مسجد عين الحسين بالعوامية-القطيف:
8/8/1430هـ |