المرجع الظاهري هو التظاهرة الفعلية
أي عرض رياضي تماما ومواجهات بين اللاعبين الذي حضروا من جميع أرجاء
العالم...المرجع الخفي هو مجمل تعبيرات هذا العرض الذي تنقله وتبثه
القنوات التلفزيونية.
تكوّر العالم هذه الأيام وصارت المعمورة تتكلم كرة تتقاذفها الأقدام
وتندهش لها العقول وقد سحر المستطيل الأخضر لب الخيال وفتن رغبات
الأجساد وأصمت الموسيقى الصاخبة والأهازيج المصاحبة الأذان وتعالت
الأصوات وهتفت الحناجر لصالح هذا الفريق وضد ذاك ودارت رحى حرب عالمية
كروية بين الدول عوضت فيها تكتيكات الممرنين وأرجل اللاعبين خطط قادة
الجيوش وأسلحة المحاربين.
هكذا فإن العرض التلفزيوني يظهر مجرد تسجيل بسيط إلا أنه يحول
المنافسة بين الرياضيين وبين المتسابقين الذي ينتمون إلى كل بلدان
العالم إلى مواجهة بين الأبطال بمعنى المقاتلين الموكلين شرعا من مختلف
العالم.
وبعد أن أسدل الستار على فعاليات المونديال فانسحب من انهزم وترشح
من انتصر وتوج الفائز وكوفئ المشارك وفي كل ذلك قد تنافس المتنافسون
وترسبت دائرة الذكريات وتوسعت ملكة التخيل والأحلام بالمونديال القادم
وتحولت الفيفا إلى حكومة عالمية ترعى الشؤون الكروية وتنظم الاقتصاد
العالمي للأسهم الرياضية وتسند لكل دولة ترتيبها وحصتها حسب مشاركاتها
ونسب فوزها.
مونديال 2010 الذي توجت فيها اسبانيا بعد تغلبها على هولاندا وحضره
الزعيم التاريخي نيلسون مونديلا في حفل اختتامه والعديد من رؤساء
وزعماء العالم كان إفريقيا على غير العادة وللمرة الأولى وهذا في حد
ذاته حدثا يسترعى الانتباه، فقد وقع الاعتراف للمرة الأولى بالقدرات
التنظيمية للقارة الإفريقية وحازت دولة جنوب إفريقيا على الكثير من
الفوائد المادية والمكاسب المعنوية ونالت حق المواطنة الحضارية بعد أن
خرجت قبل عقود منتصرة في حربها على التمييز العنصري، ولذلك كان شعار
هذه الدورة هو مناهضة العنصرية كرويا وقد نجح المنظمون في ذلك نسبيا
رغم بعض الحذر والتخوفات الأمنية من الفرق المشاركة وحدوث بعض التشكيات
من بعض التجاوزات ولكن بعد ذلك ظهرت الروح الرياضية والالتزام
بالمواثيق والأخلاقيات لولا بعض الهفوات التحكيمية التي رجحت كفة
الكبار على حساب الصغار في بعض المباريات وأبقت التفاوت الريادي على
حاله بين بلدان المركز الشمالي وبلدان أطراف الجنوب.
فهل قدمت الرياضة الحجة على صدق أسطورة تفوق الغرب على بقية دول
العالم؟ وماذا تجني الشعوب الإفريقية ومن ورائها الإنسانية من تنظيم
كأس العالم غير استهلاك الأوهام وإعادة إنتاج الوضع الاجتماعي السائد؟
كيف نفسر هذا الاهتمام الإعلامي العالمي بالحدث والمتابعة الشعبية
الكثيفة له؟
ما يلفت الانتباه أن الجوائز المالية التي ستوزعها الفيفا على
المنتخبات المشاركة تضاعفت عشرات المرات بالمقارنة مع ما تم توزيعه منذ
ثلاثين سنة والسبب هو الأرباح الضخمة التي أصبحت تدرها لعبة كرة القدم
بسبب بيع حقوق البث للفضائيات ونتيجة غلاء ثمن الإعلانات واللوحات
الإشهارية والتذاكر واشتراكات المشجعين وصار تنظيم كأس العالم أو أحد
المسابقات الرياضية الدولية أو القارية بوابة لفتح نوافذ التنمية
الاقتصادية وتطوير البنية التحتية وقدوم فرص الاستثمار وارتفاع مواطن
التشغيل والأجور بالنسبة لدولة من الدول.
كثيرة هي الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها من هذه الكأس العالمية
في كرة القدم، العبرة الأولى هي تحكم المصلحة الاقتصادية في القرار
السياسي للدول وهيمنة التصنيع والثورة الرقمية على المبادلات التجارية
والنشاط الإعلامي وما احتكار قناة الجزيرة القطرية لحقوق البث ودخول
بعض الجهات المنافسة في التشويش عليها إلا دليل على تحول لعبة كرة
القدم من احتفالية كونية استعراضية ذات صبغة كرنفالية إلى عولمة صور
صنمية تخترق العقل الهووي لمليارات من المشاهدين.
والحق أن المباريات قد نظمت لكي تصبح مادة للفرجة وان تحكم
التلفزيون في العقل البشري هو تجربة معيشة وآيتنا في ذلك أن: التلفزيون
هو أداة للإعلام ذات استقلالية ضعيفة جدا يقع على كاهله سلسلة كاملة من
المحددات والقيود التي تعود إلى العلاقات الاجتماعية بين الصحفيين،
علاقات تنافس ضارية وقاسية إلى درجة الحمق واللامعقولية وهي أيضا
علاقات تواطئية، بالإضافة إلى تورطات موضوعية ترتكز على المصالح
المشتركة التي تعود إلى المواقع التي يحتلونها في مجال الإنتاج الرمزي
والى طبيعة وحقيقة أصولهم بشكل عام من حيث التركيبات المعرفية ومستويات
الإدراك والتقدير التي ترتبط كلها بأصولهم الاجتماعية وبتكوينهم المهني،
فهل يعقل أن الجهاز الذي اعتبر أكثر وسائل الإعلام جماهيرية لم يعد
جماهيريا ووقع احتكاره من قبل عدد قليل من الشركات المانحة وفق حياديته
وموضوعيته وأصبح جهاز طيع ومفيد للسلطات؟
الدرس الثاني هي إمكانية تحول مؤسسة الفيفا إلى حكومة عالمية ترفع
من نسق التنمية والتطور في المجتمعات وتتدخل في الشؤون الداخلية للدول
باسم المحافظة على مصداقية اللعبة والاحتكام إلى القرارات الدولية في
هذا المجال وبالتالي تكونت شبكة من الشركات الاحتكارية العملاقة التي
تتحكم في حركة رأسمال وصار المسؤول الأول فيها هو الرئيس الرمزي لهذه
الحكومة العالمية ورؤساء الكونفدراليات أهم من يساعده في تنظيم شؤون
الجلد المدور واقتسام الغنائم المتأتية من الكعكة الكروية.
وكما يقول: إن الرياضة،كما تمارس اليوم، ليست سوى بعض الكائنات
المتوحشة التي صنعت لتصبح أبطالا بلا روح، تحيط بها جماهير مبتهجة
تتفرج عليها لترى كيف تحرك أجسادها وتنسى جسدها الخاص.
العبرة الثالثة التي يمكن استنتاجها هي الثورة الأخلاقية التي
أطلقتها الفيفا على ظواهر العنف في الملاعب وضد التعصب الأعمى للفرق
واستغلال التواجد الجماعي لبث الفتن والتحريض على الكراهية بين البشر
ولذلك أطلقت صرخات من أجل الكونية والمساواة والتعددية الثقافية
والتسامح واللعب النظيف. على هذا النحو مثل مونديال التاسع عشر مناسبة
كروية لمناهضة التمييز والعنصرية وتبدو مسؤولية الدولة الراعية كبيرة
لا في تطوير لعبة كرة القدم وتعصير ممارستها في القارة ولكن في
المحافظة على المكاسب الحضارية ونشر ثقافة العيش المشترك واحترام حقوق
الأقليات ودمقرطة القارة الإفريقية والعمل على بث الروح المدنية في
أنظمة الحكم وتحقيق المصالحة بينها وبين شعوبها.
فكيف تحولت هذه المنافسة الرياضية العالمية عندئذ إلى وسيلة لتجميد
الفعل البشري عوض تنشيطه؟
يجب الناقد أمبيرتو إيكو على النحو التالي: إذا كنا،حتى الآن، قد
تحدثنا عن الرياضة المربعة التي تمارس عليها المضاربات والمساومات
والاستهلاك القسري، فإنه الآن ينبغي الحديث عن الرياضة المكعبة،بمعنى
أن هناك: الرياضيين الذين يمارسون الرياضة، والمشاهدين الذين يشاهدون
الرياضة، وأخيرا الملايين من الذين لم يحضروا المباراة، ولكنهم يتحدثون
عنها،مبددين بذلك طاقات، كان يجدر بهم توظيفها في مناقشة مشاكل
المجتمع: كيفية إدارة الاقتصاد، أو محاربة الإرهاب.إنها حقا طريقة
ماكرة لصرف الناس عن الحياة الاجتماعية والسياسية.
من جهة ثانية إن الأبطال/النجوم في اللعبة الرياضية ليسوا إلا
موضوعا ظاهريا لعرض يتم إنتاجه بشكل مرتين: مرة أولى من جانب مجموعة من
وكلاء الأفراد الرياضيين/المدربين والأطباء والمنظمين والحكام ومراقبي
تسجيل الوقت ومخرج العرض، كل هؤلاء يتنافسون على حسن سير المنافسة
الرياضية في الملعب، ومرة أخرى بواسطة كل هؤلاء الذين يقومون بإعادة
وضع كل هذا من خلال صور وتعليقات وأحاديث وخطب تتعلق بهذا العرض.
لكن الإشكاليات التي تطرح والتحديات التي تظهر هي: هل يستطيع العالم
اليوم زمن العولمة التخلي عن فكرة تنظيم مسابقة كأس العالم في كرة
القدم؟ ألم تصدق نبوءة العراف نوسترا داموس وليس الأخطبوط بول بانشغال
حشود الإنسان الأخير بلعبة رياضية جماعية يهدرون فيها طاقاتهم ويصرفون
فيها ثرواتهم؟ ألم توجد الرياضة لصرف الناس عن التدخل في الشأن العام؟
في الواقع كلما كان احد المنتجين الثقافيين أكثر استقلالا، ثري في
رأسماله المعين ومتجه كلية إلى السوق المحدود الذي لا يوجد فيه كزبائن
إلا منافسوه المباشرون، كلما انخرط أكثر في المقاومة،بالإضافة إلى ذلك
وعلى العكس... كلما كان انخراطه أكثر في التعاون مع القوى الخارجية،
الدولة والكنيسة والحزب واليوم نقول الصحافة والتلفزيون فإنه يضع نفسه
تحت إمرتهم أو تحت طلباتهم.
لكن أليس قدرة القدم هي المجتمع وهي حياة الإنسان الأخير وحديثه
المحبب؟ ألم تتحول إلى آلة لصناعة النجوم؟ أليس هؤلاء من صناعة الصحافة
الرياضية والفضائيات المرئية؟ الم توجد الرياضة لكي يكون هناك برنامج
تلفزي؟ فماذا سيكون حديث الناس في ظل هذا الفراغ الرهيب لو لم يقع
تنظيم مسابقة كأس العالم في كرة القدم في كل أربع سنوات وبالتداول على
مختلف الدول من جميع القارات؟ ألا تطالب الفيفا كل الجامعات المنضوية
تحتها أن تكون هيئاتها منتخبة بشكل ديمقراطي؟ ألا يؤكد هذا على أن
الفيفا قد فرضت خيار الالتزام بالديمقراطية على الجميع أنظمة وهيئات
وغرست عقلية التداول السلمي على تسيير الحكومة العالمية في الرياضة على
خلاف الانحباس الذي أصاب الشأن السياسي؟ فما تفسير نجاح الديمقراطية في
ترويض الأجساد وتعثرها في تدبير مصالح الناس؟
* كاتب فلسفي
.....................................
المرجع:
بيير بورديو، التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول،
ترجمة درويش الحلوجي، دار كنعان، دمشق، الطبعة الأولى 2004.
حوار مع أمبيرتو إيكو حول الكرة أفيون الشعوب،
تعريب: المصطفى السهلي، عن موقع ابن خلدون |