حينما حركت سفن (أسطول الحرية) المياه الراكدة في البحيرة السياسة
العربية، تفاءلنا خيرا، وقلنا في حينها إن المنطقة سوف تشهد حركة
وغربلة لملفات جامدة، لكن آمالنا تحطمت على صخرة جمود النظام العربي
الرسمي الذي يقاوم التغيير بكل أشكاله.
نعلم أن البحيرة الراكدة تتعفن بمرور الزمن، فقد شاءت الأقدار أن
تدبّ الحركة في بحيرتنا التي أدمنت على السكون والخمول، حتى جاءتها
رياح التغيير من جهة الشمال، وتحديداً من تركيا، بعد أن سعى الغرب طوال
ثلاثة عقود لإيجاد الموانع والعراقيل أمام الرياح التي هبّت علينا من
جهة الشرق بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران. واليوم نرى كيف تعمل
الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة بكل جبروتها لإيجاد حواجز
وموانع جديدة أمام حركة الرياح السياسية الآتية من جهة الشمال. الجريمة
التي ارتكبها الكيان الصهيوني ضد الناشطين على ظهر سفن الحرية كشف
بجلاء النفاق والخبث الغربي، فقد سعت الدول الغربية في بداية الأمر
لامتصاص النقمة الدولية ضد الكيان الصهيوني، ورأينا كيف عملت على تخفيف
لهجة البيان الصادر من مجلس الأمن، والتفافها على موضوع تشكيل لجنة
التحقيق، أما اليوم فهي تسعى وبطريقة ماكرة لمعاقبة الضحية (الحكومة
التركية)؛ بسبب اندفاعها نحو قضية الشرق الأوسط، ودفاعها المستميت عن
حق الشعب الفلسطيني، وسعيها الدؤوب للتقرّب من محيطها العربي
والإسلامي. ورأينا كيف وقفت مع جارتها إيران في مجلس الأمن، ودعمتها ضد
قرار العقوبات.
أعتقد أن الغرب لن يترك تركيا تغردّ خارج السرب، وسيعمل على تشديد
الخناق عليها سياسياً واقتصادياً لإجبارها على البقاء ضمن محور الغرب.
والسؤال الذي يطرح نفسه: أين موقف النظام العربي الرسمي من المواقف
الإيجابية للحكومة التركية من القضايا العربية؟ ولماذا تغرّد الحكومات
العربية خارج سرب جماهيرها؟ الزميلة فوزية رشيد الكاتبة في صحيفة (أخبار
الخليج) تعتقد أن بعض الأنظمة العربية تقوم بدور وكيل سياسي، وتعمل
بوعي أو دون وعي على تحقيق أهداف الدول الكبرى المتدخلة في الشؤون
العربية، وتقول: “هناك أنظمة عربية تعمل وتتصرّف وتتحرك وتتفاعل مع
الأحداث المهمة كأنها (حكومات تصريف) للشؤون الامبريالية والصهيونية في
المنطقة”.
بتقديري، مثلما نجح الغرب في تحييد مواقف بعض الأنظمة العربية تجاه
القضايا المهمة في المنطقة، وتمكنت من جرّ البعض الآخر إلى معسكره،
فهذه المرة سوف يعمل الغرب وبالتعاون مع بعض الأنظمة على وضع الموانع
والعراقيل أمام التفاعلات الرسمية والشعبية التركية مع القضية
الفلسطينية.
طوال العقود الثلاثة الماضية تمكن الغرب من إيجاد حواجز بين إيران
وجيرانها العرب، وكثيراً ما رفع لافتة (تصدير الثورة إلى العالم
العربي)؛ بهدف إيجاد الفرقة وخلق عدو وهمي اسمه إيران. أما اليوم، فإنه
يرفع في وجه تركيا لافتة عنوانها (الأطماع والطموحات التركية في العالم
العربي). وهكذا كلما بادرت دولة لتقديم الدعم للقضية الفلسطينية،
ارتفعت أصوات نشاز تشكّك في نوايا هذه الدولة وترميها بشتى التهم.
الإعلام الغربي والصهيوني ومعه بعض الأبواق الرسمية والأقلام
المسعورة في المنطقة تغذي هذه الفرقة، وتسعى لإثارة الفتن بين الدول
العربية ومحيطها الإسلامي، والهدف من ذلك بقاء الدول العربية خارج
دائرة التأثير منعاً لأي تفاعل بينها وبين محيطها الإسلامي.
بعد الجريمة ضد أسطول الحرية قرأنا لبعض الأقلام الشاذة المحسوبة
على التيار العلماني العربي، ورأينا كيف سعت هذه الأقلام لتشويه سمعة
تركيا، واعتبارها عدواً للعرب، والضرب على وتر الخطر العثماني، كما
فعلت سابقاً مع إيران بوصفها امتداداً للنهج الصفوي.
على سبيل المثال، نشر الكاتب صلاح الجوهري المحسوب على التيار
العلماني مقالاً بعنوان (حصار غزة والتمثيلية التركية) على موقع (مركز
الدراسات والأبحاث العلمانية) يقول فيه: “إن الأتراك لا يقلون همجية
ووحشية عن الإسرائيليين، بل يمكن أن يتجاوزوهم بمراحل. فتاريخ تركيا
أسود، ملوّث بدماء الضحايا منذ قيام الدولة العثمانية وإلى الآن”. وفي
فقرة أخرى يقول الكاتب: “إن تاريخ الأتراك قديمًا وحديثًا يخبرنا بأن
ما تفعله تركيا الآن ما هو إلا تمثيلية تداعب بها أموال الزفت (النفط)
الخليجي الذي بسببه تلوث تاريخنا، ماضينا وحاضرنا”.
وأما الكاتب عزيز الحاج في موقع (إيلاف) فيقول: “من الطبيعي أن
يدافع أردوغان عن الإخوان الحمساويين؛ لأنه وفريقه الحاكم إسلاميون حتى
النخاع، ولولا صمود الجيش والقضاء، ووجود قوى علمانية قوية، ولولا
استمرار طلب الانضمام للاتحاد الأوروبي، لحوّلوا تركيا إلى إيران
أخرى”.
إن إثارة العصبيات القومية والطائفية والمذهبية والقبلية في جسم
الأمة كانت دوماً الوسيلة السهلة للقوى الامبريالية والصهيونية.
وباعتقادي، حينما تكون البحيرة العربية راكدة سياسياً تنتشر في أرجائها
روائح نتنة، وما يُثار اليوم حول الخطر التركي على الأمة العربية من
دون أية إشارةٍ لعدو الأمة (إسرائيل) لهو خير مثال على ذلك. |