سواء تعلق الأمر بخطف جندي إسرائيلي أو بإطلاق صاروخ أو أية عملية
فدائية، فهذا من حيث المبدأ حق مشروع للشعب الفلسطيني ما دام
المُستهدَف عدوا يحتل الأرض ويمتهن الكرامة ويسعى لنفي الوجود الوطني
للشعب الفلسطيني على أرضه ويمارس من الجرائم ما يجعله محل استنكار
الرأي العام العالمي.
ولكن وحيث أن العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين علاقة صراع
وهذه العمليات تدخل ضمن هذا الإطار فيفترض أن يُجيد من يقوم بهذه
العمليات الفدائية إدارة هذا الصراع الدامي والمعقد والمتعدد الأبعاد.
العمل العسكري او الفدائي أو الجهادي ليس عنفا من أجل العنف بل هو فعل
سياسي بأبعاد استراتيجية بامتياز حيث لا تقتصر تداعياته على الحصيلة
المادية للفعل كعدد القتلى أو الأسرى أو الدمار المُحدث عند العدو أو
بعدد الشهداء والجرحى من المناضلين، بل بقدرة هذا الفعل على إحداث حراك
سياسي يجعل الحق أقرب منالا والعدو أكثر ضعفا، ويخدم المشروع التحرري
الوطني، أما إذا ما تحول العمل العسكري لدعاية سياسية لهذا الحزب أو
ذاك أو تحول لمصدر للإرتزاق الثوري والجهادي أو لأداة للتنافس على سلطة
ومناصب مع أحزاب وقوى أخرى، فإنه سينقلب ضد المصلحة الوطنية بل وضد
الجماعة نفسها التي تمارس هذا العمل.
لأن الفعل الفدائي أو الجهادي تقوم به جماعات تقول بالمقاومة
والجهاد ولأنه يسقط ضحايا من العدو أو من المقاومين أو يتعلق بإطلاق
سراح أسرى الخ، ولأنه يتم اسقاط قدسية وشرعية الفعل الجهادي من حيث
المبدأ على من يقف وراء هذا الفعل، فإن مجرد نقده أو تحليله بطريقة
عقلانية يدخل في باب المحظور إن لم يكن في باب المحرمات التي تُعرض
المنتقِد لسياط التكفير والتخوين. غياب النقد البناء والجاد لأعمال
الجماعات (الجهادية) وعدم قيام الجماعات بنقد ذاتي لنهجها أو بمراجعة
عقلانية على أساس حسابات الربح والخسارة بالمقاييس الوطنية، لن يؤثر
فقط على مصداقية وشعبية هذه الجماعات بل أثر سلبا على مبدأ الجهاد
والمقاومة بحد ذاته، وهذا ما نلمسه اليوم.
عندما توقفت المقاومة والعمليات الجهادية أخيرا على كامل التراب
الفلسطيني لم نسمع أو نرى حنينا للعودة لها، ليس لأن الفلسطينيين فقدوا
إيمانهم في الحق بالمقاومة أو أصبحوا أكثر قناعة بنهج السلام، فممارسات
إسرائيل لا تدل على رغبتها بالسلام، بل لأنهم فقدوا ثقتهم بالجماعات
التي تقول بالمقاومة والجهاد بعدما رأوا بأم أعينهم حصيلة عمل هذه
الجماعات، بل يمكن القول بأن درجة إساءة بعض الجماعات الجهادية لمبدأ
الجهاد والمقاومة أكبر من إساءة المعارضين لهذه الجماعات والقائلين
بالسلام.
أربعون عاما على تجربة العمل الفدائي الفلسطيني مع فصائل منظمة
التحرير الفلسطينية كانت حصيلتها اتفاقية أوسلو بتداعياتها المأساوية،
ثم اثنان وعشرون عاما مع تجربة العمل الجهادي مع حركتي حماس والجهاد
وغيرها، وانتفاضة أزهقت أرواح أكثر من خمسة آلاف مواطن أو شهيد وآلاف
الأسرى والجرحى، وكانت نتيجتها انقسام وفتنة وحرب أهلية ثم سلطة (للمجاهدين)
في قطاع غزة، استمرارها رهن باستمرار وقف المقاومة المسلحة... ومع ذلك
فقلة هي الكتابات الجادة والجريئة التي حاولت القيام بمراجعة نقدية
وطنية، ليس لمبدأ المقاومة والجهاد فهذا حق لا يشك فيه أحد ولا يستطيع
أحد ولا من حق أحد أن يسقطه أو يلغيه، ولكن لكيفية ممارسته ومدى توافق
الممارسة مع المبدأ من جانب ومع المصلحة الوطنية من جانب آخر.
من ضمن عمليات المقاومة التي تحتاج لوقفة تقييم نظرا لتداعياتها
الخطيرة على مجمل القضية الوطنية وخصوصا على قطاع غزة، تأتي عملية أسر
الجندي الإسرائيلي شاليط، لتطرح أكثر من سؤال سواء ما إذا كانت
الجماعات التي اختطفته خططت لخطف جنود بالفعل ؟وهل يصلح قطاع غزة كمسرح
لخطف جنود إسرائيليين والمساومة عليهم لسنوات دون أن تعرف إسرائيل مكان
تواجدهم؟ وهل يجوز إدخال قضية الأسرى ضمن فعل حزبي خارج إطار
استراتيجية شمولية للتعامل مع قضية الأسرى؟ وهل كانت اسرائيل جادة
بإنجاز صفقة تبادل أم كانت تضع ذرائع تمكنها من التهرب من إنجاز الصفقة
لأن بقاء شاليط أسيرا عند حماس يحقق لإسرائيل أهداف استراتيجية أكثر
أهمية من شاليط؟ وهل تحول الأسير شاليط لآسر للحالة الفلسطينية كلها؟
وأخيرا هل ستتم صفقة لإطلاق شاليط ستكون أشمل من صفقة تبادل أسرى؟.
مرت أربع سنوات على خطف فصائل فلسطينية للجندي الإسرائيلي جلعاد
شاليط وخلالها لم تتمكن الفصائل من خطف جنود آخرين لا في الضفة ولا في
غزة، ومقابل هذا الجندي الوحيد يوجد لدى إسرائيل حوالي تسعة آلاف أسير
ومعتقل فلسطيني ربما نصفهم تم أسرهم بعد شاليط أو لاعتقالهم علاقة بخطف
الجندي ومن بين هؤلاء وزراء ونواب من حركة حماس وكل أسير ونائب يساوي
ألف شاليط لأن أسرانا رمز للحرية والعدالة ورمز للكرامة الفلسطينية
وجنودهم رمز للإرهاب والعدوان، ولولا أسرانا وشهداءنا ما كان الوزير
وزيرا ولا النائب نائبا وما استمرت قضيتنا حية تشغل العالم حتى اليوم.
خلال هذه الفترة الزمنية تدَّخَل عدة وسطاء لإنجاز صفقة تبادل أسرى
وكانت إسرائيل دوما سبب إفشال الصفقة تحت ذرائع متعددة منها:إن إسرائيل
لن تكرس مبدأ تبادل أسرى حتى لا يشجع ذلك الفلسطينيين على تكرار
محاولات أسر جنود، او الزعم بأن إسرائيل لن تطلق سراح فلسطينيين ملوثة
أياديهم بالدم اليهودي أو خشيتها من ان يعود المُطلق سراحهم مجددا
للعمل ضد إسرائيل، وفي حقيقة الامر هذه ذرائع لعدم إنجاز الصفقة -
فإسرائيل التي عودتنا على الكذب والخداع يمكنها إطلاق سراح أسرى خطرين
وإرسالهم لبيوتهم حتى في الضفة ثم تعود لإعتقالهم بعد إتمام الصفقة،
وقد فعلت ذلك مع أسرى سابقين تم إطلاق سراحهم - ولكن الأهم بالنسبة
لإسرائيل أن استمرار حماس بأسر الجندي يمنحها المبرر لاستمرار حصارها
على القطاع وما يترتب على ذلك من تدمير البنية التحتية لقطاع غزة، وما
يصاحب الحصار من تداعيات كإعاقة المصالحة الفلسطينية وتعثر التسوية الخ،
أيضا لا تريد إسرائيل تكريس سابقة تبادل أسرى مع فلسطينيين داخل فلسطين
وهي تفضل أن تكون الصفقة أشمل من تبادل أسرى، أي أن تأخذ مقابل إطلاق
سراح أسرى فلسطينيين ما هو أهم من شاليط.
إذن إسرائيل لا تنظر لموضوع شاليط فقط كموضوع تبادل اسرى بل ضمن
رؤية أبعد بحيث وظفت أسر شاليط لتحقيق أهداف استراتيجية وبالتالي لم
تكن متعجلة لإطلاق سراحه وخصوصا ان حركة حماس وقعت في خطأ استراتيجي
عندما اصبحت تتبنى رسميا خطف الجندي والمسؤولية عنه وتقوم بمفاوضات
بشأنه، فيما كانت قبل ذلك تقول بأن لا علاقة لها بأسر الجندي وان فصائل
المقاومة هي المسؤولة وما حركة حماس سوى الوسيط. لم تعد قضية شاليط
اليوم بيد فصائل بل بيد حكومة وحركة سياسية وبالتالي أصبح الجندي شاليط
يدخل في إطار علاقة شبيهة بعلاقة دولة بدولة حتى وإن لم يوجد اعتراف
متبادل بين الطرفين، وهذا الأمر يشكل عبئاً إضافيا على الحكومة في غزة،
اليوم أصبحت حركة حماس وحكومتها مسئولتين عن الجندي شاليط، وكلما حاولت
حماس الانفتاح على واشنطن أو الأوروبيين يطلبون منها إنهاء ملف شاليط.
وبالتالي فحركة حماس تريد إنهاء ملف شريط ليس فقط من اجل إطلاق سراح
أسرى فلسطينيين بل أيضا من أجل رفع الحصار عنها وتواصلها مع العالم
الخارجي، وقد تكون مستعدة لتليين شروطها بشأن الأسرى مقابل احداث
اختراق على مستوى رفع الحصار وانفتاحها على واشنطن وأوروبا.
بعد أربع سنوات تشعر حكومة إسرائيل بأنها حققت كثيرا من الأهداف من
خلال الجندي شاليط، أو ان شاليط أنجز مهمته، وقد تكون التحركات التي
يقوم بها أنصار شاليط دافعا إضافيا للتفكير بصفقة لإطلاق سراحه، كما أن
حركة حماس بدأت تشعر بأن شاليط اصبح عبئا على انفتاح الحركة وحكومتها
على العالم الخارجي وبالتالي قد تكون مستعدة لإنجاز صفقة يتم تخريجها
بما لا يبدو بأنه نصر لطرف على حساب طرف آخر. خطاب نتنياهو أول أمس حول
شروط لصفقة والحديث عن عودة المبعوث الألماني للمنطقة قد يكون مؤشرا
على إمكانية حل المشكلة، حتى تصريحات نتنياهو حول وجود بدائل أخرى
وتصريحات اشكنازي التي تنذر بحرب قادمة قد لا تكون منقطعة الصلة
بالموضوع بمعنى أن إسرائيل تستعمل سياسة العصا والجزرة.
إذا ما حدثت الصفقة فلن تقتصر على تبادل أسرى بل ستتضمن قضايا أمنية
أخرى تتعلق بالتهدئة ورفع الحصار وقد يكون جزء من الصفقة سريا لا يتم
الإعلان عنه، ومع ذلك نتمنى أن تنتهي قضية شاليط لأن استمرار خطفه بات
له مردود سلبي على الفلسطينيين ولأن إطلاق سراح ألف أسير فلسطيني سيدخل
الفرحة في قلوب ألف أسرة فلسطينية.
www. palnation.org |