تسود العالم المعاصر أسئلة ملحة حول الراهن بحقوله المختلفة،
والمستقبل بآفاقه العديدة.. إذ إننا نجد أن جميع الأمم والشعوب تسعى
جاهدة بكل ما أوتيت من قوة وإمكانات لتؤكد نفسها وإرادتها في هذا
العالم المتشابك والمليء بالطموحات والتطلعات والإرادات المتباينة..
لذلك فإن من أهم الأعمال، التي نتمكن خلالها من بناء راهننا بما ينسجم
وطموحاتنا، هو العمل على تطوير مستوى الوفاق الداخلي، والعيش المشترك
بين مكونات الوطن والمجتمع..
حينما نتحدث عن (التعايش بين أبناء الوطن الواحد) فإننا نتحدث عن
السياسات التعليمية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي
ينبغي أن تساهم في تعزيز خيار التعايش، وذلك لأنه خيارنا المتاح
والممكن لتوطيد أركان الوحدة الوطنية وتعزيز موجبات التلاحم الداخلي..
وهذا من الشروط الأساسية لتظهير الإمكانات الذاتية وبناء القوة
الوطنية..
فالوحدة هي حجر الأساس في مشروع البناء والتقدم، وحدة وطنية لا تعسف
فيها ولا إسفاف، وحدة القضية الوطنية، والوطن الواحد، وحدة المصير
المشترك، وحدة البناء والتطوير، وحدة الإنسان من أقصى الوطن إلى
أقصاه.. بهذه المعالم والمعطيات، نبني الذات الوطنية، ونعمق أسباب
الوئام الاجتماعي والوطني، ونؤسس لحقبة وطنية جديدة.. وذلك لأن الوطن
ينهض بنهوض قيم التقدم والسلم المجتمعي والشراكة الوطنية، ويسقط ببروز
قيم التخلف والتعصب والانغلاق على الذات..
وإن قيم الشراكة الوطنية، هي التي توفر الظروف الذاتية
والموضوعية،لإنهاء الانغلاق الداخلي، وتحبط مؤامرات الخارج التي تسعى
نحو التفتيت والتقسيم.. وإن الوطنية الحقة تبدأ بالقبول النفسي والعقلي
بالآخر المغاير على قاعدة الوطن الواحد والمصير المشترك.. وهذا القبول
بدوره يبلور صيغ التفاعل والتضامن والمشاركة مع الآخر اجتماعيا وسياسيا
وثقافيا ووطنيا.. لذلك فإن السديم البشري يتحول إلى مجتمع، أمة، حينما
تتحقق مواطنية أبنائها في كل الأبعاد والجوانب.. وبدون ذلك ليست ثمة
وطنية وإن تاجر البعض باسمها..وإنما جزر اجتماعية مغلقة،
متحاجزة،وتشظيات ثقافية، فكرية، تسوغ هذا التحاجز والتنافر..
من هنا فإن تطور الأوطان، مرهون بمدى القدرة النظرية والعملية، على
بلورة رؤية أو نظرية وطنية، تستوعب كل الخصوصيات، وتدفع بإرادتها تجاه
البناء الوطني الشامل.. فالوطن في المحصلة النهائية، هو إرادة جميع
الخصوصيات في العيش المشترك.. وفي هذا المعنى يبدو الوطن وعاء فريدا
وضروريا،لأنه وطن التعايش والتعدد، واستيعاب التنوع وإعادة إنتاجه وحدة
وطنية متينة..
ولنتذكّر دائما : أن التنوع إذا أُحسنت إدارته والتعامل معه، تحول
إلى ثروة فعلية، تزيد من آفاق المجتمع وروافده الإنسانية..
ووفق هذه الرؤية، ينبغي أن نتعامل مع كل تنوع أو تعدد متوفر في
الفضاء الوطني..
ووحدتنا وتلاحمنا الداخلي، بحاجة بشكل دائم إلى هذه الرؤية التي
تثري مضامين الحوار والوحدة على الصعيدين الوطني والإنساني..
إذ إننا نعتقد أن الوحدة التي تبنى على قاعدة الحرية والمشاركة
والمسؤولية المتبادلة، هي الوحدة الصلبة والقادرة على إفشال كل مخططات
التفتيت والتجزئة، كما أنها هي التي تؤهل المجتمع للانخراط في مشروع
بناء قوته وعزته على أسس حضارية وإنسانية متينة..
والتعايش الذي نقصده لا يعني الذوبان أو الإنهاء القسري للاختلافات
والتباينات أو تجميدها، وإنما يعني وببساطة شديدة الاعتراف بحق
الاختلاف وواجب المساواة..
فالاختلافات بين البشر حالة طبيعية وجبلّة إنسانية، وينبغي أن لا
تقود هذه الاختلافات إلى انتهاك الحقوق أو التعدي على حقوق الآخرين
المادية والمعنوية، وإنما ينبغي أن تضبط بواجب المساواة.. بحيث لا تكون
الاختلافات والتباينات تشريعا للانتقاص أو الانتهاك أو الظلم والعدوان
وإنما إلى المساواة في الحقوق والواجبات.. فالتعايش هو الموازنة الفذة
والضرورية والدائمة لحق الاختلاف وواجب المساواة.. إن هذه المعادلة
التي توازن بين الاختلاف والمساواة هي حقيقة التعايش في المجتمعات
الإنسانية..
فالمجتمعات الإنسانية بطبعها، تعيش حالة التنوع والتعددية، وفك
الارتباط بين مفهوم الاختلاف، ومفهوم المساواة، هو الذي يقود ويؤسس إلى
علاقة سلبية بين مختلف المكونات والتعبيرات.. لهذا فإن المشكلة
الجوهرية ليست وليدة الاختلاف والتمايز بين الناس، بل هي وليدة خلق
الفجوة والمسافة بين الاختلاف والمساواة.. لهذا فإن كل جهد يبذل في
سبيل تجسير الفجوة بين الاختلاف والمساواة هو جهد تعايشي، ويخدم قضية
التعايش بين أبناء الوطن الواحد..
لهذا كله ومن أجل تعزيز خيار التعايش في مجتمعنا ووطننا، نود
التأكيد على النقاط التالية:
* تعرية كل التصرفات والممارسات التي تعمق الفجوة بين الاختلاف
والمساواة..
فالاختلاف بكل مستوياته، ليس مبررا لعدم المساواة في الحقوق
والواجبات.. وكل ممارسة تستهدف خلق الفجوة والمسافة بين الاختلاف
والمساواة، هي ممارسة على النقيض من مشروع التعايش، لذلك ينبغي تعريتها
وفضحها ورفع الغطاء الديني والاجتماعي عنها..
* العمل على تنقية البيئة الاجتماعية والوطنية من أمراض القطيعة
والفئوية الضيقة وحالات الانغلاق والانكفاء والانطواء..
فلا يمكن أن ننجز مفهوم التعايش في مجتمعنا في ظل سيادة نزعة التعصب
والقطيعة والانكفاء المتبادل.. فالعزلة الشعورية والعملية، لا تقودان
إلى تعايش، بل إلى تحاجز بين أبناء المجتمع الواحد لاعتبارات فكرية أو
سياسية أو اجتماعية، يستهدف ويقتضي العمل على إنهاء الحواجز النفسية
والثقافية بين المواطنين، وتفكيك مبررات الانطواء والانكفاء..
والتعايش يقتضي أيضا تنشيط حالات الانفتاح والتواصل، وخلق الثقافة
الداعمة والمعززة لهذا الخيار والتوجه..
فلا تعايش بدون انفتاح وتواصل، فهما بوابة التعايش الأساسية..
وحينما نتحدث عن (التعايش بين أبناء الوطن الواحد) فإننا نتحدث عن
السياسات التعليمية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي
ينبغي أن تساهم في تعزيز خيار التعايش، وتنهي كل المفردات والقضايا
المضادة لمشروع التعايش على مستوى المناهج أو الأداء والممارسة..
وهذا بطبيعة الحال يقودنا إلى مشروعات الدمج بين المكونات الوطنية
المتعددة، لأنه وببساطة شديدة المجتمع السعودي متعدد ومتنوع، ولا يمكن
بناء هوية وطنية مشتركة، إلا على قاعدة الاعتراف بحقيقة التنوع في
المجتمع السعودي، والعمل على بناء مشروع متكامل للاندماج الوطني..
أي أننا في الوقت الذي نعترف فيه بحقيقة التعددية، في ذات الوقت، لا
ندعو إلى التحاجز بين هذه التعدديات أو الانحباس المتبادل، وإنما ندعو
إلى بناء مشروع وطني للاندماج يستوعب جميع التعدديات، ويعلي من شأن
الانتماء الوطني المشترك لجميع المواطنين.. |