يبدو أن بعض الفضائيات وخصوصا في عالمنا العربي لم تعد مجرد وسيلة
إعلامية أو ناقلة للخبر بل أصبحت ناظمة للقيم والتوجهات وصانعة للأحداث
وللقيادات السياسية والدينية، إن لم تكن مثيرة للفتن، فلم يعد الحدث أو
الحزب أو الشخص هو ذاته بل الصورة التي تنقلها وتشكلها الفضائيات عنه.
وبالتالي أصبح كسب ولاء الفضائيات وولاء من يقف وراءها أهم من كسب
ولاء الشعب. صحيح أن كل حزب أو نظام سياسي، كل مفكر أو مبدع، يحتاج
لتقنيات الثورة المعلوماتية وخصوصا الفضائيات لينتشر وينشر أفكاره
وابداعه وخصوصا في زمن العولمة، ولكن التحدي في قدرة المفكر أو المبدع
في تحويل الفضائيات لأداة يمر خلالها إلى العالم وليس أن يتحول لاداة
بيد القوى الموجهة لهذه الفضائيات.
وصحيح أن الصحافة منذ فترة طويلة استحقت لقب السلطة الرابعة، إلا أن
الفضائيات التي همشت وسائل الإعلام الأخرى والتي لم تعد تحتاج لإذن من
أية سلطة لتخاطب الناس من كل الأعمار مباشرة، تستحق اليوم لقب (السلطة
فوق كل السلطات).
إلى وقت قريب كان الصحفيون، والإعلاميون بشكل عام، يلهثون وراء
رجال السياسة والمفكرين والمثقفين لمجرد أخذ تصريح مقتضب أو معلومة أو
إجراء مقابلة أو مجرد أخذ صورة، أما اليوم فكثير من رجال السياسة و
الفكر يلهثون وراء الفضائيات ليظهروا على شاشاتها وإن مرت أيام دون
ظهورهم يصابون بالإكتئاب أو يشعرون بوجود خطب ما فيرسلون الوسطاء
ويولمون الولائم لأصحاب الفضائيات ولمراسليها ومديري مكاتبها أو بكيلون
لهم المديح بمناسبة أو بدون مناسبة، ويعاتبون القائمين على الفضائيات
لأنها تجاهلتهم لحين من الوقت، لا فرق في ذلك بين المعتدلين والممانعين،
بين المجاهدين والمساومين، بين اليسار واليمين... الكل يشعر أنهم بدون
الفضائيات لا قيمة لهم أو سينساهم العالم بما فيه مريديهم !.
إلى وقت قريب كانت أجهزة المخابرات المحلية والأجنبية توظف آلاف
العملاء ليتنصتوا ويتجسسوا على الأحزاب وقوى المعارضة وعلى كل تنظيم
سياسي معارض داخل الوطن أو خارجه وكانت تنفق ملايين الدولارات لزرع
أجهزة تنصت أو زرع عملاء داخل التنظيمات السياسية ومقراتها وعلى كل
ناصية وفي كل مقهى ونادي، ليتعرفوا على فكرها وتوجهاتها السياسية أو
منتسبيها أو ليبثوا خبرا كاذبا يشتت فكر الأمة ويزعزع ثوابتها، أما
اليوم فبعض الفضائيات تستطيع استدعاء أي زعيم سياسي أو مسؤول أي تنظيم
حتى السرية منها بل يتسابق هؤلاء للفضائيات، التي لا تجري حوارا عاديا
بل تقوم بتحقيقات هي أقرب إلى التحقيقات البوليسية حول كل صغيرة وكبيرة
حول الشخصية المُستضافة أو التنظيم الذي تنتمي إليه: ما هي استراتيجيته
وتكتيكاته ومصادر تمويله الخ، بعض الجماعات المسلحة وخصوصا المبتدئة
ترتب الأمر مع بعض الفضائيات المشهورة لتكون حاضرة لتصور عمليتها
العسكرية الأولى أو بيانها الأول أو تتفق معها على نشر الشريط المصور
لهذه العملية أو ذاك التدريب العسكري في معاقلها السرية، ولولا هذه
التغطية الإعلامية المتفق عليها ما كان أحد سمع بهذه العمليات المسلحة
ولا بالجماعة بشكل عام أو بقيت ضمن نطاق محلي.
لقد ضخمت الفضائيات بعض الجماعات والاحزاب وجردت أخرى من جزء كبير
من طابعها السري ومن خصوصيتها وما تضفيه السرية والخصوصية من غموض
وحصانة هما جزءا من مكانة وهيبة هذه التنظيمات، بل وجعلت الفضائيات هذه
القوى السياسية صفحة مقروءة أمام كل أجهزة المخابرات في العالم، ومن
هنا لا نستغرب اغتيال كثير من قادة هذه التنظيمات بعد ظهورهم على
الفضائيات أو إجراء مكالمات تلفونية معهم.
إلى وقت قريب لم يكن المواطن العربي قد انفتح بعد على منجزات الثورة
المعلوماتية كالفضائيات والإنترنت وغيرها، وكانت وسيلته للتواصل داخل
الوطن ومع العالم الخارجي تقتصر على الترانزستور الذي يقتصر تواجده في
بعض المقاهي والبيوت، والأسر الأكثر رفاهية كانت تتوفر على جهاز
تلفزيون لا يبث إلا القناة الرسمية لبلده أو قنوات رسمية عربية محدودة
ولساعات محدودة، ومع ذلك، كانت الأفكار القومية و الوطنية والإحساس
بالانتماء المشترك يوحد العرب وجدانيا من المحيط إلى الخليج، ويوحد
الشعب داخل كل قطر حول مفاهيم وطنية توحيدية، آنذاك كانت القيم
والأفكار والعواطف والمشاعر الجياشة تسري سريان النار في الهشيم بين
أبناء الأمة العربية بدون فضائيات ولا شبكة عنكبوتية، كانت أفكار عبد
الناصر الوحدوية وصوره، كانت أخبار ثورة الجزائر ورموزها كجميلة بوحريد
وبن بلا، كان التعاطف مع فلسطين وثورتها الخ، كان كل ذلك معمما من طنجة
إلى عدن، وأذكر أنني كنت في مطلع شبابي كما هو الحال مع كل أبناء جيلي
نخرج بمسيرات ومظاهرات نصرة للجزائر ونصرة لفلسطين وأحيانا لفيتنام الخ
بدون أن نشاهد ونسمع البث المباشر للحدث أو لتقارير مفصلة ومصورة أو
نستمع لآلاف المحللين والخبراء السياسيين، كان مجرد خبر صغير من إذاعة
محلية أو إذاعة لندن أو منشور يوزع سريا في المخيم ، كفيل بأن يستنهض
ويؤجج المشاعر، أما اليوم ومع وجود مئات القنوات الفضائية المنسوبة
للعرب فالإنتماء القومي والوطني يتحلل والشعوبية بكل ألوانها تنتشر،
اليوم كلما تزايدت الفضائيات تزايدت الفتنة والفوضى سياسيا وثقافيا
وتزايد التدهور الاخلاقي، حتى الفضائيات الدينية لم تزد من قوة إيمان
المسلمين بقدر ما زادت من انقسامهم وتنافرهم وضياعهم.
فهل للفضائيات رسالة وطنية وقومية وأخلاقية تنظم عملها وتحدد
توجهها؟أم هي فضائيات في فضاء لا تحكمه أخلاق ولا قيم ولا ضوابط وطنية
بل هي منتوج يُسخَر للأقوى ولمن يدفع أكثر؟.
قد يقول قائل: إن الفضائيات جزء من الثورة المعلوماتية فهي صيرورة
حتمية عالميا وليست بدعة عربية، وإن تزامن ظهور الثورة المعلوماتية
وانتشار الفضائيات مع العولمة والتوجه الأمريكي لتأسيس نظام دولي جديد
يكون لها الهيمنة عليه، جاء مصادفة وليس أمرا مخططا له، وأنه ليس من
المعقول أن حوالي 60 ألف فضائية في العالم وغالبيتها تابعة لجهات خاصة
هي صنيعة واشنطن وأجهزتها المخابراتية. هذا كلام صحيح ولا شك، فمن
المبالغة القول بأن واشنطن خلقت العولمة والثورة التقانية وأسقطت
المعسكر الأشتراكي حتى تسيطر على الشرق الأوسط وتطبق سياسة (الفوضى
البناءة ) على شعوبه.
ولكن بالمقابل يمكن التساؤل: لماذا لا تفعل الثورة التقنية وخصوصا
الفضائيات فعلها المدمر في شعوب آخرى أكثر تقدما علميا وأكثر عددا
ومساحة من العالم العربي؟ فهل لدى الصين أو الهند أو اليابان فضائيات
بعدد ما لدى العرب ؟ و إن كان لديها فهل تقوم فضائيات تلك البلدان بنفس
الدور التدميري لوحدة الأمة كما تقوم به فضائياتنا ؟وهل لدى كل حزب
وطائفة وإقليم في تلك البلدان فضائية تعاكس في توجهاتها الثقافة
والهوية والمصلحة الوطنية العامة في البلد؟ وهل يوجد في أْية بلد
فضائيات دينية تكفر الآخر وتثير الفتنة، بعدد ما لدينا؟.
الموضوع ليس أن نكون مع الثورة التقانية والفضائيات والشبكة
العنكبوتية أو لا نكون، والمشكلة ليست أن ننفتح على العالم أم لا. ولكن
المشكلة هل إننا نوظف هذه الثورة التقنية ومنتوجاتها الإعلامية لخدمة
قضايا أمتنا العربية ولخدمة قضايانا الوطنية ؟ أم أن هذه الفضائيات ومن
يقف وراءها أصبحت أداة بيد واشنطن والغرب لخدمة أغراضهم المتناقضة مع
مصالح شعوبنا بالحرية والتقدم والحفاظ على ثقافتنا وهويتنا ؟.
إن كل متابع لمجريات التحولات السياسية والاستراتيجية في العالم وفي
منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص سيلمس العلاقة الطردية ما بين درجة
التغلغل الامريكي السياسي والعسكري وإعمال سياسة (الفوضى البناءة) من
وجهة النظر الأمريكية وتحديدا من طرف المحافظين الجدد من جانب، وإنتشار
فضائيات ناطقة بالعربية بميزانيات هائلة وإمكانيات تقنية غير معهودة من
جهة أخرى، وهذا يعني أن الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة اعتمدت على
القواعد العسكرية والفضائيات في نفس الوقت، أو بصيغة أخرى إن تنفيذ
سياسة (الفوضى البناءة) أو (التدمير البناء) أو (الاختراق النظيف) كان
يحتاج لأداتين: للقوة العسكرية والأمنية من جانب وما يمنح التبرير
النظري لما يجري من تفكيك لوحدة الامة من خلال الزعم بأن العرب مجتمعين
أو على مستوى كل قطر عربي لا يوجد ما يوحدهم وأنهم قبائل وطوائف
وجماعات وأحزاب متصارعة ومتعادية، من جانب آخر، و قد أسندت مهمة
الترويج لهذا التبرير النظري لفضائيات بعينها أو من خلال تسهيل انتشار
الفضائيات دون ضوابط.
أليس غريبا أن أهم بلد عربي تحتله واشنطن و تطبق عليه سياسة (الفوضى
البناءة) يتوفر على أكبر عدد من الفضائيات على مستوى المنطقة؟وأليس
غريبا أن البلد العربي الذي يستضيف أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في
المنطقة هو نفسه الذي يمتلك أكبر وأهم فضائية سياسية عربية ؟.
لقد ساعدت الفضائيات – بعضها بحسن نية - من خلال البث المباشر
للصورة بشكل مبالغ فيه واستضافة كل من هب ودب من مدعي التحليل السياسي
والخبرة الإستراتيجية والأمنية والدينية، على تغييب التفكير
الاستراتيجي المرتكز على الرؤية الوطنية والقومية وعلى تشتيت الوعي
الجمعي والثوابت الوطنية والقومية وعلى تسطيح الوعي السياسي في
مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي ما زالت في مرحلة بناء الأمة
والوطن، وعلى نشر وعي وفكر سياسي وديني سطحي مستمد من وقعِ الصورة أو
من نصوص مقدسة يتم تفسيرها بما يخرجها عن جوهرها ودلالاتها وما تتركه
من انفعالات وعواطف.
كثير من الحركات المسلحة السياسية والانفصالية والدينية ما كانت
لتكون او لبقيت ظاهرة هامشية في المجتمع لولا احتضانها من فضائيات
عربية ومن بعض الفضائيات الأمريكية والأوروبية، حيث يتم تضخيم هذه
الحركات ومنحها حيزا كبيرا من التغطية الإعلامية، ليس لأن هذه الحركة
تستحق ذلك، بل لأنها تتفق مع السياسة العامة لمن يقف وراء هذه
الفضائيات وتساعد على نشر الفوضى والفتنة في البلد. لا يعني هذا حرمان
الأقليات والجماعات المضطهدة في عالم عربي تحكمه أنظمة تغطي على فقدان
الشرعية وعلى استبدادها بشعارات كبيرة حول وحدة الأمة والمصلحة
الوطنية... ولكن ما نرمي إليه هو التحذير من توظيف تطلعات مشروعة لشعب
أو بعض فئاته لخدمة فضائيات تشتغل لصالح أجندة خارجية لا تؤمن لا
بالديمقراطية ولا بحقوق الإنسان ولا بثوابت وطنية أو قومية أو دينية،
وبالتالي ينطبق على هذه الفضائيات المثل (قول حق يراد به باطل).
Ibrahem_ibrach@hotmail. com |