يبدو أن غزة وضحايا حصارها تحولوا إلي حائط مبكى ومادة إشهارية
وإعلامية لأحزاب وأنظمة سياسية لم يعد يعنيها أمر فلسطين ولا الضحايا
بحد ذاتهم بل توظف المشهد والخطاب الدرامي للحصار لحدمة مشاريعها
السياسية وأجندتها الخاصة. فتحت عنوان رفع الحصار عن غزة يتم إعاادة
صياغة القضية الفلسطينية والانقلاب على أصولها الأولى ونكران تاريخ
طويل من النضال الوطني والقومي والمعاناة الأشد وقعا على الشعب من
الحصار، ويتم تجاهل وإسقاط حقوق وطنية أهم من غزة التي هي جزء من الوطن
ولكنها ليست الوطن.
وتحت عنوان رفع الحصار تعمل إسرائيل على أن تكون غزة البداية وغزة
النهاية، مع إخراج غزة من هويتها وكينونتها الوطنية الفلسطينية
وتحويلها لورقة يخفي من خلالها البعض فشله وعجزه في القيام بواجبه
القومي والإسلامي تجاه القضية المركزية فلسطين، فيما البعض الآخر وجد
في القطاع المحاصر والفقير والمدمر فرصة تاريخية لتحويله لقاعدة منطلق
لمشاريع سياسية وهمية يلبسونها لبوس الدين والعقيدة، وداخل القطاع
تشكلت طبقة جديدة راكمت ثرواتها وأقامت مشاريعها الإستثمارية
والاقتصادية في ظل الحصار وعلى حساب الشرائح التي تعاني حقيقة من
الحصار وأصبحت هذه الطبقة الجديدة تشكل حالة مفارقة مع المشهد العام
للحصار كما يتصوره الناس خارج القطاع.
من المهم أن نبكي على ضحايانا الذين يسقطون في كل جولة من جولات
الصراع مع عدو لا يخفي أنه يرغب ببناء وجوده على حساب وجودنا الوطني
ولا بأس أن نُحَوِل ضحايانا من بشر وحجر لحائط مبكى نستدر من خلالهم
عطف العالم ونُذكر أنفسنا من خلالهم بأننا كنا ضحايا تحولات تاريخية
ودولية سارت رياحها على عكس ما تشتهي سفننا وأننا اليوم ضحايا كيان
صهيوني استيطاني يتصرف وكأنه فوق كل قانون وشريعة... ، ولكن علينا أن
لا ننسى في كل حفل بكاء وعويل على الضحايا الجدد أن هؤلاء شهداء وطن
ومن أجل الوطن وليسوا شهداء حزب ومن أجل حزب، ولا يجوز لأحد أن يُخرج
الحدث عن سياقه الوطني العام فيقيم على أشلاء الضحايا حائط بكاء خاص به
وبمشروعه، قد يكون من المهم أيضا أن نخفف عن الضحايا وذويهم المصاب
ونجعل معركتهم لرفع الضيم وتخفيف المصاب جزءا من معركة الكل الوطني،
ولكن... من المهم أن نعرف كيف أصبحوا ضحايا وكيف نضمن عدم تكرار
المأساة أو الأخطاء التي صيرتهم كذلك، وفوق كل ذلك كيف ننتقم لهؤلاء من
الأعداء الحقيقيين، وذلك بتحويل الضحية من حائط مبكى ومادة إعلامية
وإشهارية على حساب كرامته الإنسانية، لهذا الحزب أو النظام السياسي أو
لفضائيات تشتغل وكيلا عن واشنطن لخدمة أغراضها الاستراتيجية لنشر (الفوضى
البناءة) في المنطقة... ، إلى مواطن يتعالى على مصابه ويستنهض قواه
لينتقم من جلاديه بطريقة عقلانية و ضمن استراتيجية وطنية.
لا شك أن كل الشعب الفلسطيني ضحية الاحتلال الصهيوني الذي بدأ عام
48 وبالتالي يفترض أن يتحول كل ضحايا الاحتلال لجبهة واحدة موحدة في
مواجهة العدو المشترك، إلا أن إسرائيل نهجت استراتيجية لتدمير وحدة
الشعب والقضية بتجزئة القضية إلى قضايا متعددة تُشغل من خلالها الشعب
وتجره لمسارب مواجهات تدفعه أحيانا ليواجه بعضه البعض.
الحصار جزئية من استراتيجية إسرائيلية متواصلة: سلطة بدون سيادة،
نخب سياسية مرتبطة بالاحتلال تغتني من خلال شراكتها الاقتصادية مع
إسرائيل بمقدار عجزها عن إنجاز اي تقدم على مسار المفاوضات التي تقودها
مع إسرائيل، أحزاب بدون رؤية مشتركة، اقتصاد بدون مجتمع منتج، انتاج
بدون حرية تصدير واستيراد، تمويل خارجي مشروط، قيود تعيق التواصل بين
غزة والضفة، انتخابات ترتد على أصولها الديمقراطية وتؤقَت بما يعزز
الفتنة والصراع الداخلي، التنسيق الأمني في الضفة، تهدئة غير معلنة مع
إسرائيل في غزة، التضييق على المعابر الحدودية، الحواجز الداخلية،
الاستيطان المستشري في الضفة، التهويد المتعاظم للقدس، الجدار العازل،
خطة شارون لفصل غزة عن الضفة، اعتقال وزراء ونواب من حركة حماس، انقلاب
حركة حماس والانقسام السياسي، إبعاد فلسطينيين من الضفة والقدس، وأخيرا
هيمنة موضوع رفع الحصار عن غزة على كل القضايا بحيث غيبت غزة الوطن.
نستحضر كل هذه الأمور لنؤكد على أن الحصار جزء من استراتيجية
صهيونية أكثر شمولا وافتعال مشكلة الحصار في غزة هدفه إبعاد الأنظار عن
جوهر القضية في الضفة والقدس وعودة الاجئين. لا شك أن الحصار يدمر
مقومات الحياة الكريمة للبشر ويدمر ممكنات بناء البنية التحتية للقطاع
الذي يسكنه أكثر من مليون ونصف المليون نسمه. والحياة الكريمة ليست فقط
توفير الغذاء والماء والدواء والكساء فهذه أمور متوفرة بنسبة كبيرة،
وقد يرتد السحر على الساحر إذا ما استمرت حركة حماس بالتركيز على البعد
الإنساني للحصار حيث إسرائيل مستعدة لإغراق القطاع بالمواد الغذائية
والدواء لتنتزع هذه الورقة من حركة حماس.
الحياة الكريمة أن يعيش المواطن سيدا في ظل حكومة وطنية شرعية سيدة
تحترم حقوقه وتحفظ كرامته وتحترم الحريات العامة للجميع، حكومة تستمد
شرعيتها من ولاء واحترام الشعب لها وليس من توازنات إقليمية ودولية
وترتيبات أمنية يفرضها العدو. كما أن البنية التحتية للقطاع ليست بناء
أجهزة أمنية وسجون أو مشاريع ترفيهية ومشاريع شراء الأراضي والعقارات
التي يقدر رأسمال كل مشروع بملايين الدولارات وهي مشاريع تشكلت في ظل
الانقسام ومع الحصار.
المطلوب رفع الحصار للتخفيف عن الضحايا وليس تحويل الحصار لحائط
بكاء تستغله قوى سياسية لخدمة أغراض سياسية حزبية ضيقة كإقامة إمارة أو
دويلة في غزة على حساب وحدة المشروع الوطني والقضية الوطنية؟او لخدمة
نخب يتعاظم ثراؤها كل يوم يمر على الحصار حتى بات الفقر في غزة يتعايش
مع طبقة رأسمالية طفيلية معنية باستمرار الحصار ولو كشعار مضلل يبرر
نهجها غير القانوني وغير الأخلاقي في الثراء؟. حتى يكون رفع الحصار
مطلبا وطنيا وقوميا ودوليا إنسانيا يجب أن يصب في طاحونة المصلحة
الوطنية والمشروع التحرري الوطني وهذا لن يحدث إن تم فصل واقعة فرض
الحصار على غزة عن مسبباتها الأولى وعن السياق العام لأزمة النظام
السياسي الفلسطيني وعن الاستراتيجية الإسرائيلية التي خططت بداية لفصل
غزة عن الضفة، إن تم التعامل مع الحصار ورفع الحصار خارج السياق الوطني
العام فستتحول الدينامية الدافعة لرفع الحصار عن غزة – بغض النظر عن
حسن نوايا البعض- لأداة تخدم الاستراتيجية الصهيونية، وبدلا من أن
يتحول الضحايا لقوة ضمن استراتيجية وطنية للانتقام مع العدو الحقيقي –
إسرائيل- سيتحولون لأدوات أو حالة معيقة للمشروع الوطني ولورقة ابتزاز
يوظفها العدو لاستكمال مشروعه الاستراتيجي وهو السيطرة التامة على
الضفة والقدس وتدمير المشروع الوطني التحرري – المقاوم والسلمي –
وتحويل قطاع غزة لساحة صراع فلسطينيي /فلسطيني يخوض فيه الفلسطينيون
الحرب بالوكالة عن أصحاب أجندة خارجية وغير وطنية.
قبل ثلاث سنوات كتبنا مقالا بعنوان (حتى لا تغيب غزة الوطن) وبعده
بأشهر كتبنا مقالا بعنوان (الحصار :المخاض العسير لولادة دولة غزة)
ويبدو أن غزة ستغيب الوطن وان جهود رفع الحصار ستؤدي لولادة دويلة
مشوهة في غزة، وحتى لا نكون مبالغين فلندقق بمفردات الخطاب السياسي
والإعلامي اليوم:حصارغزة، الحرب على غزة، لبيك غزة، نصرة غزة، رفع
الحصار عن غزة، غزة سجن كبير، قوافل الحرية لغزة، لجان تحقيق دولية حول
غزة، حملات دولية لفك الحصار عن غزة، اجتماعات لمجلس الأمن ومنظمات
دولية وإقليمية للبحث فيما يجري في غزة ومستقبلها، مقترحات أوروبية
وامريكية وإسرائيلية للتخفيف من الحصار عن غزة أو رفعه الخ. وشعارات
وقرارات وتصورات أخرى كثيرة أصبحت تشكل منظومة متكاملة لحالة سياسية
قائمة بذاتها تسمى قطاع غزة، منقطعة الصلة بالقضية الأصلية وهي القضية
الوطنية الفلسطينية.
وإذا أضفنا لذلك وجود حكومة وسلطة في القطاع تمارس كدولة قائمة
بذاتها ولا تتعدى سياساتها العامة حدود القطاع، وقيادة سياسية لحركة
حماس بدأ العالم يتعامل معها تدريجيا ليس باعتبارها ممثلة للشعب
الفلسطيني وللقضية بشكل عام بل كممثلة لقطاع غزة، حيث لا نسمع إلا
نادرا ان لقاءات السيد خالد مشعل وبقية قيادات حماس مع المسؤولين
الأجانب الذين يلتقون بهم تتطرق لقضايا تتجاوز رفع الحصار عن غزة
وعلاقة القطاع بإسرائيل وخصوصا في القضايا الأمنية. وفي المقابل فإن
المفاوضات المتعثرة والتي أخذت شكل المفاوضات غير المباشرة أصبحت تقتصر
على قضية تجميد الاستيطان وقضيتي المياه والأمن في الضفة الغربية فقط،
وكان لا وجود لقطاع غزة، اما فلسطين القضية الوطنية قضية الحرية
والاستقلال الوطني فقد غابت عن الخطاب الإعلامي والاهتمام الدولي.
ضمن هذا السياق نلاحظ أن الحديث عن حصار غزه ورفعه أو تخفيفه غطى
على جوهر القضية وهو الاستيطان في الضفة وتهويد القدس ومأزق التسوية
وتهرب إسرائيل من التزاماتها، كما غطى على المقاومة العسكرية والسلمية
خطابا وممارسة، وبدلا من أن تدفع ديناميكية دعوات رفع الحصار التي
أوجدها رأي عام عالمي يتزايد في تأييده ودعمه للفلسطينيين إلى التسريع
بالمصالحة زادت من تعقيد ملف المصالحة وجعلتها أبعد منالا. نلاحظ أيضا
أن غالبية الحديث عن رفع الحصار بات منبت الصلة بجوهر القضية
الفلسطينية حيث الحديث يدور عن رفع الحصار عن غزة بما يكرس فصلها عن
الضفة وتأبيد حالة القطيعة بين الطرفين أما الرؤى التي تسعى لتزامن رفع
الحصار مع المصالحة بما يحافظ على وحدة الشعب والأرض فهي شبه غائبة.
Ibrahem_ibrach@hotmail. com |