تأسست الدولة العراقية الحديثة عام 1921 وهي تحمل الطابع العلماني
في هياكلها المؤسساتية ومنظومتها القيمية على الرغم من انتماء ملكها
إلى الأسرة الهاشمية الحجازية، وانتماء رئيس وزرائها الأول إلى عائلة
النقيب العراقية الهاشمية أيضا، ولا عجب في ذلك لأن العراق كان منسلخا
من إمبراطورية متخلفة حملت الصفة الإسلامية هي الإمبراطورية العثمانية
التي نظرت إلى العراق طوال فترة حكمها له على انه بقرة حلوب تدر
المغانم على السلطان وأسرته وولاته وأفراد حاشيته، ومحتلا -أي العراق-
من إمبراطورية غربية علمانية هي الإمبراطورية البريطانية التي تنظر إلى
الدين على انه سبب لكثير من مشاكلها القديمة فتبشر بعزله عن السياسة في
ظل تقديس للعلم بمختلف أبعاده كأساس للتقدم والتطور، وقد جاءت بكل
ثقلها المادي والمعنوي لغرس هذه الأفكار في عقول بناة العراق- آنذاك –
في وقت لم تكن لهذا البلد أية مقومات للدولة إذ التخلف يضرب بأطنابه
على شعب مقهور مسلوب الإرادة تلعب به القوى الإقليمية والدولية كيفما
شاءت.
فلا غرابة أن يتم تبني العلمانية كمنهج فكري وعملي للدولة العراقية
عند لحظة تأسيسها في مطلع القرن العشرين، ولكن منذ هذه اللحظة وصعودا
إلى عام 2003 لم تحصد هذه الدولة إلا مزيدا من خيبات الأمل للعراقيين -
واقصد بالعراقيين أولئك الناس البسطاء من الشباب والنساء والأطفال
والشيوخ أبناء المحلات والأزقة والقرى العراقية المنسية ولا اقصد بهم
المترفين من السياسيين والمسئولين على اختلاف مشاربهم ومراجعهم الفكرية
والاجتماعية – وكثيرا ما شعر هؤلاء العراقيون بأن حكوماتهم وقياداتهم
المسئولة قد خذلتهم ولم تلبي حاجاتهم الأساسية ناهيك عن حاجاتهم الأخرى
حتى وصل الأمر إلى أن يشعروا بالحيرة من التطور والتقدم الذي بلغته
بلدان مجاورة كانت في يوم ما بلدانا صحراوية، وكان تساؤل كل عراقي هو
لماذا يتقدم الآخرون ونتأخر نحن؟
ولماذا هذا الاستهتار غير المسئول بدمائهم وأعراضهم وأموالهم من
حكومات وقيادات متعاقبة كان واجبها خدمتهم وترقيتهم وحفظ كرامتهم ؟.
وفي ظل هذه الحيرة الفكرية والالم الذي يعتصر الضمير العراقي برز
وتنامي تيار فكري بين العراقيين لاسيما الشباب منهم روجت له قوى
وقيادات متعددة فحواه أن علمانية الدولة وبعدها عن منهج الإسلام، وعدم
ورع وأيمان رجالاتها والقائمين عليها وانتمائهم أيديولوجيا لمنظومات
فكرية شوفينية وستالينية هو سبب خراب ودمار العراق ومعاناة شعبه، وما
شجع هذا التيار وزاد من زخمه الخيبة الكبيرة التي منيت بها الدول
العلمانية في المنطقة وبروز ما سمي بالصحوة الإسلامية منذ مطلع عقد
السبعينيات من القرن الماضي فصعودا.
لقد ساهمت هذه الأفكار المشحونة بالعاطفة الإسلامية في إعطاء
العراقيين الأمل في الخروج من الهوة السحيقة التي سقطوا فيها عندما
تكالب عليهم الطغاة والمستبدون وأصحاب المصالح الشخصية الذين امتصوا
دمائهم وأموالهم وسحقوا كرامتهم وكبريائهم باسم الوطنية والحرية
والقومية وما شابه من شعارات، وصار هذا الأمل دافعا لعمل سقط كثير من
الناس ضحايا للدفاع عنه وهم يحلمون بغد أفضل للعراق وأهله، وكيف لا
يفعلوا هذا وهم يشعرون أنهم يلبون نداء السماء والأرض، فظهرت من رحم
هذا التيار أحزاب وكتل سياسية مختلفة ومن المدرستين الإسلاميتين
الرئيستين- الشيعية والسنية – والشعار الأسمى لكل هذه القوى كان
الإسلام هو الحل والدولة الإسلامية هي المنقذ، وقد عوقب بسبب الانتماء
لهذه القوى بشر كثير بتهم العمالة والخيانة.. متحملين سطوة السلطة
وظلمها وجبروتها ومعتبرين كل فعل ولو كان بسيطا خطوة إلى الأمام لتحقيق
ألأمل المنشود.
واستمر هذا الأمر إلى أن سقطت الدولة العلمانية في العراق عام 2003
بأيد أجنبية نعم ولكن بإرادة عراقية راغبة وحالمة بالتغيير، واعتلت
صهوة التغيير الجديد القوى الإسلامية بالدرجة الأساس فاستبشر الناس
بذلك خيرا وتوقعوا أنهم قد اقتربوا من تحقيق أملهم إذ جاء إلى السلطة
دعاة المشروع الإسلامي وأصحاب شعار إن أكرمكم عند الله أتقاكم والمفضول
لا يتقدم على الفاضل!، ولكن كيف كانت تجربة الإسلاميين العراقيين في
السلطة منذ عام 2003 إلى عام 2010 ؟ وما هي الانطباعات التي رسخت في
أذهان العراقيين عنهم ؟.
حقيقة أن الإجابة على هذه التساؤلات لا يكفيها مقال قصير، بل قد
تكون محورا لدراسة متكاملة في المستقبل، لكن ما نود قوله هنا إن تجربة
بعض الإسلاميين العراقيين خلال السبعة سنوات المنصرمة كانت سلبية لا
على شخوصهم فقط بل وانعكست على الإسلام كدين ومنهج حياة ورسالة تنوير
للبشر وتثو ير لقدراتهم ونظام حكم، وقديما قال الإمام علي عليه السلام:
من نصب نفسه للناس أماما فليبدأ بتأديب نفسه قبل تأديب غيره وليكن
تأديبه بسيرته قبل أن يكون تأديبه بلسانه، فمؤدب نفسه ومعلمها أحق
بالإجلال من مؤدب الناس ومعلمهم. كما له عليه السلام قول آخر ورد فيه:
أن من ولي من أمور المسلمين شيئا وجب عليه أن يتصف بثلاث خصال: ورع
يحجزه عن معاصي الله، وحلم يمنع به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى
يكون لهم كالوالد الرفيق وفي رواية كالأب الشفيق.
فهل كان إسلاميو العراق الذين تولوا المسؤولية بعد 2003 قريبين من
هذه الأقوال والحكم أم كانوا بعيدين عنها ؟، وهل كانوا رحيمين وخدام
رءوفين بالشعب الذي تولوا حكمه؟. بصراحة -ومع الأسف– فأن بعضهم لم يكن
كذلك، فقد أظهروا تكالبا منقطع النظير على السلطة ومغانمها، وحبا مفرطا
بكراسي الحكم، واستغراقا في ملذاتهم، حتى أن من يراقبهم قد لا يجد فرقا
كثيرا بينهم وبين أولئك الذين كنا نصفهم بالعلمانيين الستالينيين، كما
لا فرق بينهم وبين القيادات والمسؤولين في باقي دول المنطقة في وقت كنا
نأمل منهم أن يكونوا بناة لتجربة ديمقراطية إسلامية في الحكم تشع
بنورها على العالم كله، بل ان بعض المراقبين يرون انه لو ثنيت لبعض
هؤلاء المسئولين الوسادة لكان فرعونا أو هامانا أو قارونا جديدا.
ولم يقتصر الأمر على ما تقدم، بل إن بعض القوى الإسلامية العراقية
لم تستطع خلق ثورة فكرية ونفسية وأخلاقية لدى كوادرها والمنتمين إليها
والمحسوبين عليها من المسئولين الذين غرقوا في وحل الفساد المالي
والإداري بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الدول، كما برهنت هذه القوى
على أن قاعدة إن أكرمكم عند الله اتقاكم والمفضول لا يتقدم على الفاضل
يمكن استبدالها بقاعدة أن أكرمكم عند القائد الفلاني أو الزعيم الفلاني..
أطوعكم وأخضعكم وأكثركم ولاء له وليس للفكر والمنهج والسلوك الإسلامي.
أما صراعات بعض هذه القوى فيما بينها وتحاملها على بعضها البعض فقد
وصل إلى حد يثير السخرية والازدراء عندما بلغ مستوى الاستعداد والقبول
بتعطيل الدستور وتأخير الخدمات ومنع تشكيل حكومة تنقذ المواطن وترحم
حاله، وكثيرا ما أظهرت أنها عاجزة عن بناء دولة عصرية، فالمحلل المدقق
لشؤونها لا يعرف الفلسفة التي تنطلق منها لبناء الدولة سواء في الجانب
السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي.
ازاء كل ما تقدم تحولت فرحة العراقيين إلى إحباط وتلاشى أملهم وصار
فشل بعض القوى الإسلامية ينعكس على الإسلام كدين ونظام حكم، ولو جرى
إحصاء محايد ونزيه ودقيق لنسبة الراغبين بالحكم الاسلامي من العراقيين
لاكتشفنا حقيقة مذهلة هي تراجع هذه النسبة عام 2010 عن مستواها عام
2003، ويتحمل مسؤولية ذلك بعض الإسلاميين العراقيين الذين تولوا
المسؤولية بعد 9/4/2003 وفشلوا في بناء تجربة ناجحة لدولة إسلامية
تحترم حقوق وحريات الناس وتحفظ كرامتهم وتتميز عن تجارب دول الإقليم
بديمقراطيتها وعنفوانها وإشعاعها التنويري التحديثي، لذا ليس غريبا أن
يسمع الإسلاميون العراقيون تلك الأصوات المنبعثة من رحم المعاناة
العراقية والتي تتهمهم بعضا أو كلا بالعمالة أو الدكتاتورية أو الضعف
أو الفساد أو النفاق أو ما شابه من نعوت لم نكن نتمنى أن نسمعها تقال
يوما ما بحق أناس يحملون الهوية الإسلامية، كما ليس غريبا أن تجد بين
العراقيين من يطالب بالعودة للدكتاتورية ويدعو إلى دكتاتور جديد يحكم
العراق لان الإنسان عندما يسقط من القمة يستمر بالانحدار إلى الأسفل،
وقد كانت القمة – ولازالت – لكثير من العراقيين تعني مجيء حكام شرفاء
أمناء صادقين يجمعون طهر السماء إلى كفاءة وعنفوان وحيوية الأرض وهو ما
لم يجدوه لا قبل 2003 ولا بعد ذلك، وإذا كان الإمام السيد محمد الحسيني
الشيرازي في كتاباته قد حمل بعض القوى الإسلامية مسؤولية تنفير الناس
عن الإسلام والفشل في بناء الدولة لما تتصف به من عنف في علاقاتها
الداخلية والخارجية، فأن بعض الإسلاميين العراقيين الذين تحملوا
المسؤولية خلال هذه الفترة قد فشلوا ونفروا الناس من الإسلام لأسباب
كثيرة ليس العنف إلا جزءا صغيرا منها.
إن هذه التجربة السلبية لبعض القوى الإسلامية في العراق تحتاج إلى
وقفة طويلة وتحليل دقيق لتحديد سبل تجاوزها بشخوص جديدة وخطاب إسلامي
جديد لا يقتصر على التراتيل والأناشيد والخطب والمواعظ والمآتم
الكلامية فحسب، بل خطاب قادر على خلق ثورة فكر وسلوك لدى من يعمل
ويتحرك ضمن إطار هذه القوى حتى يكون قدوة حقيقية للناس في حفظ الأمانة
والرحمة بالرعية والنهوض بالمسؤولية وتحقيق العدل السياسي والعدالة
الاجتماعية وكما قال الرسول صلى الله عليه وآله: كلكم راع وكلكم مسئول
عن رعيته.
أخيرا لا بد من القول أن تركيزنا على الإسلاميين وتجربتهم في الحكم
منذ عام 2003 إلى عام 2010 لا يعني بأي حال من الأحوال أن غيرهم من
المسئولين كان أفضل منهم، لكننا اقتصرنا في هذا المقال على تجربة
الإسلاميين كونهم القوة المتنفذة القادرة على إحداث تغيير حقيقي لصالح
الشعب لو امتلكت الخطاب الصحيح والقادة المناسبين.
* نائب رئيس مركز الفرات للتنمية والدراسات
الإستراتيجية
http://fcdrs.com |