نانسي أو مجتمع المتسولات..

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: وجهٌ ألفه الملايين من المشاهدين العرب رآه احد الكتاب العرب علامة بارزة من علامات الزمن العربي الرديء الذي أصبحت فيه مؤخرة هذه المطربة أهم من مقدمة ابن خلدون..

وقدمَ حازم صاغية في كتابه (نانسي ليست كارل ماركس) اعتذاره لهذه المقارنة وأعطى للثقافة الشعبية حقها بإعلاء الحسي على حساب الجدّي..

ونانسي في موضوعنا هذا ليست نانسي الوجه المألوف لتلك الملايين العربية في ترفها وحرمانها واحباطاتها وآمالها، بل هي نانسي ذات العقود الأربعة والتي لا تعرف غير التسول مهنة في الأسواق وهي لا تقارَن بنانسي المعروفة وجها وملامحا وعمرا..

قد تكون تعرف تلك النانسي المشهورة وقد تشعر بالسرور للتشبيه بها رغم الاستحالة والمفارقة الا ان معرفتها بحقيقتها لا تخلف غير الحسرة في قلبها..

كل صباح أراها حاملة على صدرها طفلة في الثالثة من عمرها تختلط الأوساخ والأتربة على وجهها بملامحها البريئة..

يمازحها الكثير من الذين يعرفونها والذين عقدوا معها علاقات إشفاق بائسة لكنه مزاح فاحش سوقي تختلط فيه الكثير من مفردات التشبيه والتوصيف المبتذلة.. تجاريهم في مزاحهم من اجل 250 دينار هي اقصى ما يمكن أن يجود به الواحد منهم..

نانسي موضوع حديثنا شكلتها الـظروف وعوامل التفكك الاسري وغياب الرعاية الاجتماعية فهي لم تعرف سقفا يؤويها او جدارا عائليا يحيط بها ..

سكنها الوحيد الذي تعرفه وألفته أرصفة الشوارع المظلمة والدور المهدمة تتزوج هناك وتتناسل وتحبل وتلد تقول ذلك وتخبرني انها تزوجت بسبعة رجال (وهو وصف مجازي للزواج) فواحد من هؤلاء السبعة فقط وثّقت عقد زواجه بها في المحكمة وكل رجل من هؤلاء ترك طفلا في أحشاءها وغادرها إلى لا رجعة..

جميع من عرفتهم في بيئتها عاطلون عن العمل ويتعاطون الخمر ويدمنون على المخدرات تتكفل هي بمعيشتهم ومصاريف إدمانهم مقابل توفير الحماية لها وإبقائها على قيد الحياة أمام من يحاول قتلها وتؤمن لهم حاجاتهم الجنسية مثلما هي حاجاتها التي لا تتورع عن الحديث عنها بصورة بورنوغرافية وهي تضحك مسرورة..

مثل نانسي هناك الكثيرات غيرها وكل واحدة لها قصتها..

(ن.م) في العشرينات من عمرها واحدة من هؤلاء متزوجة من رجل عاطل عن العمل يجبرها على التسول وجلبِ المال له لصرفه على ملذاته الشخصية من خمر ومخدرات.

تكرار العمل نفسه جعل ممانعتها اقل، وهي التي تجمع ما لا يقل عن 100 ألف دينار في اليوم الواحد، تحمل طفلة على صدرها في الربيع الثاني من عمرها ترافق (ن.م) أختها وهي أيضا في العشرينات من عمرها غير متزوجة وفي وجهها ملاحة لا تخطئها العين..

تتعرض للكثير من التحرشات من قبل الآخرين والمضايقات إلا أنها تعرف كيف تصد تحرشات الاخرين ومضايقاتهم..

(س.خ) حدثني عنها احد سائقي سيارات الأجرة شاب في الثلاثينات من عمره وتبدو عليه الوسامة، تقيم في احد فنادق شارع السعدون طلبت منه ان ينام معها لتحمل منه طفلا يكون وسيما مثله لقاء مبلغ من المال لان الطفل الجميل أكثر مدعاة للشفقة إضافة إلى استثمار فترة حملها في استدرار المزيد من عطف الناس، وهو انحراف جديد في مجتمع المتسولات لم يعهد سابقا..

وقد طورت الكثيرات أساليب جديدة أخرى في مهنة التسول (إن صح إطلاق كلمة مهنة فيما يقمن به) وهو ما نقله لي احد الاشخاص في محافظة البصرة عن واحدة من هؤلاء تقوم بالاستجداء في هيئة غير ما عهدناه من هيئاتهن في الملابس المتسخة والوجود الكالحة التي لا تسقط عليها المياه إلا في مناسبات قليلة..

انها ترتدي ملابس نظيفة ويبدو عليها اثر نعمة زائلة تحمل في يدها سلة صغيرة وتحيي اصحاب المحلات بالسلام عليكم فقط بدون اي طلب للمساعدة او اي كلمة اخرى وكأنها بهذا تقول للمقابل (ارحموا عزيز قوم ذل)..

لا تُعد الانحرافات السلوكية شيئا طارئا في حياة هذه الفئة من النساء بسبب غياب المعايير الخلقية او الوازع الديني فهي تلجأ لكل ما من شأنه استمالة قلوب الاخرين سواءا بجانبها الخيّر والساذج او بجانبها الشرير.. فبالإضافة إلى التسول كانحراف اجتماعي وسيكولوجي تلجأ الكثير من هؤلاء النسوة الى الدعارة لإشباع حاجتها إلى الجنس والى زيادة مداخيلها المالية، ويمكن القول انها دعارة منضبطة وليست منفلتة فلا تعرف المتسولة هنا بالمومس او العاهرة كما يعرف عن النساء اللواتي يخترن طريق الدعارة كأقدم مهنة بشرية...

أسباب التسول

1- أسباب عائلية تتمثل في تفكك الروابط الاجتماعية للعائلة وكثرة الإنجاب بسبب جهل الأم أو الوالدين معاً، وزيادة نسبة الطلاق أو تعدد الزوجات.

2- أسباب تخص المجتمع وهي عامة، تدني مستوى الوعي العام، وارتفاع تكاليف المعيشة، وقلة موارد العائلة، ومعاناة الأسرة العراقية مع تبعات الحروب والحصار الاقتصادي لسنوات عديدة والحرب الاخيرة وتداعياتها الطائفية من القتل والتهجير القسري وفقدان الكثير من الاعمال والوظائف، وقلة  وسائل التثقيف ولاسيما في العقدين الماضيين.

ما هي أدوات التسول والمتسولات في شوارع أصبحت فيها مهنة التسول علامة بارزة الى جانب انعدام الامن وتردي الخدمات والفساد؟

يلجأ المتسولون عادة إلى توظيف العاهات الجسدية الخلقية والتي نشأت نتيجة حوادث معينة كالسيقان الضامرة واليدان والسمنة المفرطة مع البلاهة الواضحة..

اليد المقطوعة او الساق او فقدان البصر وهناك من يمر على المحلات او بتجمعات المواطنين ومناشدتهم في جمع أجرة السفرة إلى محافظة أخرى لأنه غريب ومساعدة الغريب واجبة..

هذه الأصناف كثيرا ما نجدها عند المتسولين من الرجال اما النساء فأكثر ما يعتمدن على وضع الاطفال أمامهن (أطفالهن أو أطفال أخريات يتم تأجيرهم لهكذا مهمات)..

ويفضل ان يكون الطفل صاحب عاهة (طبيعية او مصطنعة) وهناك من تدور على المحلات و المارة وهي تحمل علبة فيها بعض العلكة واعواد البخور والكثير يقدمون المال ولا يأخذون العلكة او البخور..

وهناك أسلوب جديد رواه لي احد الأصدقاء قائلا:

جاءت إحدى النساء إلى محل عملي وسألتني عن تاجر اعرفه وحين سألتها من أرسلك إليه أجابت: لقد أرسلني الامام الحسين (عليه السلام) وأنا بحاجة إلى عملية في إيران وقد تم تأمين مبلغ العملية بمساعدة الخيرين لكني احتاج إلى تأمين مصاريف من يرافقني في رحلتي..

فيما يتعلق بمظهر المتسولين والمتسولات...

فهناك ندرة تقترب الى الاستحالة ان تجد احدهم نظيفا وكأن القذارة المتراكمة على الوجه والملابس والشعر عامل آخر لاستدرار الشفقة ومساعدة الآخرين..

ما هي الكلمات او النداءات التي نسمعها من هؤلاء؟؟

هناك الكثير منها.. على سبيل المثال..(عند الله ميضيع..) (بثواب الحسين) (بثواب ام البنين) (بثواب مصيبة الحسين) (المال مال الله والسخي حبيب الله) (فقير ومحتاج) (أيتام ومحتاجين)..

معظم المتسولين والمتسولات هم ليسوا بحاجة فعلية للمال بل هو اصبح مرضا نفسيا يعتاشون منه ويكدسون ثرواتهم من خلاله.

احدهم يملك منزلا في الكرادة ثمنه حاليا مليار دينار عراقي وهو غير متزوج وليس لديه احد معه في المنزل..

واختم هذه السطور بحكاية من التراث رواها الأصمعي قال:

انه رأى رجلا يخرج من احد السجون يحمل على كتفه جرة، يبيع الماء للسجناء، قال الأصمعي:

عجبت من ذلك وكان الرجل رث الملابس بائسا، فلما رآني أعجب من عمله مع سوء حاله انشد يقول:

لنقل الصخر من قلل الجبال ....... أحب إلي من منن الرجال

يقول الناس كسب فيه عار  ....... وكل العار في ذل السؤال

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 23/حزيران/2010 - 10/رجب/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م