المقدمة
في الاغوار البعيدة من تاريخ البشرية.. ومنذ انبثقت الانسانية
الجماعية.. من خلال علاقات وروابط مشتركة تجمع بين مجموعة افراد.. فان
هذه العلاقات التي تكونت تحقيقاً لمتطلبات الفطرة والطبيعة.. كانت بأمس
الحاجة الى توجيه وتنظيم.. وكلما حقق هذا التنظيم انسجاماً مع الواقع
الانساني ومصالحه كلما تحقق استقرار المجتمع وسعادته.
وقد رافق نضال الانسان وجهاده من اجل البناء الاجتماعي وهندسته
الكثير من التضحيات وكان جهاد الانسان مرهقاً يضج بالمآسي ويعج
بالمظالم ولولا ومضات برقت في لحظات من التاريخ لصح القول بأن التاريخ
البشري عبارة عن سلسلة مترابطة من الكوارث والمآسي والامواج المتلاطمة.
لسنا بصدد استعراض تاريخ الجهاد الانساني في الميدان الاجتماعي..
لكننا نريد ان نواكب الانسانية في واقعها الحاضر.. لنتعرض الغاية التي
انتهى اليها الشوط الانساني.. ولاسيما النظر الى النظام الرأسمالي الذي
هو أساس الحكم في الشطر الاعظم من المعمورة بعد ان انسحب النظام
الشيوعي من الساحة خائباً يجر اذيال الهزيمة والخسران.. مما مهد السبيل
الى النظام الرأسمالي ليفرض هيمنته على العالم خاصة بعد ان اصبحت
امريكا قطب القوة المتفرد في العالم والتي تعمل جاهدة لفرض هيمنتها على
العالم من خلال ترسيخ القيم الرأسمالية وزرعها في كل بقع الارض
وتأطيرها وفق النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي تفهمه وتريده امريكا
كقوة طاغية متجبرة توظف أعلى حلقات العلم الذي تمتلكه لتنفيذ مآربها
الدنيئة.
الرأسمالية والديمقراطية
يمكن القول ان النظام الرأسمالي الذي أعقب عصر النهضة قد قام على
أنقاض الانظمة الدكتاتورية وجمود الكنيسة اللاهوتي.. تلك الانظمة
السياسية والفكرية البالية التي لا تكترث بالفرد، وتطمس مصالحه ولا
تعير أي اهتمام لدوافعه الذاتية.. في حين قامت الديمقراطية الرأسمالية
على الايمان بالفرد واعتبرت ضمان مصالحه تحقيقاً لمصلحة المجتمع.. وان
ركائزها تقوم على اساس الحريات الاربع: السياسية، الاقتصادية، الفكرية
والشخصية.
فالحرية السياسية تقوم على اساس حق التصويت ومبدأ الانتخاب العام
الذي يضمن إنبثاق جهاز الحكم عن اكثرية المواطنين.. وما يتبع ذلك من
قبول بالتعددية ومبدأ تداول السلطة وقيام دولة المؤسسات.. التي تفترض
ان يكون لكل فرد رأياً محترماً في تقرير الحياة العامة للأمة.
اما الحرية الاقتصادية فتبنى على اساس الاقتصاد الحر والملكية
الخاصة غير المقيدة وتعظيم الربح وتضخيم الثروة ومضاعفتها على ضوء
مصالح الفرد ومنافعه الشخصية.. وان حركة الاقتصاد تضبطها آلية هي آلية
السوق او ((جهاز الاثمان)) والتي تحفظ التوازن الاقتصادي. اما الحرية
الفكرية فتكفل للناس ان يعيشوا احراراً في عقائدهم وافكارهم دون عائق
من السلطة.. ولهم حق الاجتهاد وفق ما توحيه اليهم اهواؤهم وامزجتهم
وقناعاتهم ويحق للإنسان ان يتحرر في سلوكه الخاص من مختلف الوان الضغط
والتحديد وهذا ما تضمنه الركيزة الرابعة ـ الحرية الشخصية لكل فرد
والتي لاتقف الا عند حرية الاخرين.
اذن هذه ركائز الديمقراطية في النظام الرأسمالي والذي عبر عنه ووصف
بأنه الجنة في نعيمها وسعادتها كما ادعى المفكرون الغربيون المنظرون
للديمقراطية في النظام الرأسمالي.
مادية الرأسمالية
يمكن القول ان عصر العلم الذي دخلته الانسانية في ظل الرأسمالية كان
يمور فيه اكثر من تيار فكري لقيادة الحضارة الغربية وبالتالي العالم،
التيار الاول هو الفكر التنويري وتجسد في الفكر الفرنسي الذي انجز
الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789 التي انبثقت منها وثيقة حقوق الانسان..
وهو تيار عقلاني انساني بشكل عام رافقه العثار في ميدان السياسة، اما
التيار الثاني فهو التيار اللاعقلاني واللاتنويري الذي افصحت عنه فلسفة
نيتشه وكان من نتائجه النازية والحركة الصهيونية والفلسفة البراغماتية
التي تهيمن على الفكر والسياسة الامريكيين.. وهو تيار مشرب بالفكر
الالماني الرومانتي الذي حقق نجاحات كبيرة في ميدان السياسة لكنه تراجع
في ميدان الفكر لانه اصلاً يقوم على اقانيم مثل العاطفة والعمل والقوة
ولا يكترث بالعقل والفكر والرحمة الانسانية والقيم النبيلة.
ومن الواضح ان النظام الرأسمالي نظام مادي خالص.. ينظر الى الانسان
بمنأى عن مبدئه وآخرته، قاصراً همه على الجانب النفعي من حياته المادية.
انه نظام كان مشبعاً بالروح المادية الطاغية والمتأثرة بالعقلية
التجريبية التي شاعت منذ الانقلاب الصناعي.. مأخوذاً بروح الشك
والتبلبل الفكري، مستلهماً ثورة التمرد والسخط على الدين المزعوم، الذي
كان يجمد الافكار والعقول، ويتملق للظلم والجبروت، ويمجد الفساد
الاجتماعي في كل معركة يخوضها مع الضعفاء والمضطهدين.
مآسي الرأسمالية
لقد زخر النظام الرأسمالي بالروح المادية الى درجة ان أقصيت الاخلاق
والقيم النبيلة من الحساب، وحلت محلها المصلحة الشخصية كهدف اسمى، فيما
جعلت الحريات جميعها كوسيلة لتحقيق تلك المصلحة.. الامر الذي انتج اكثر
ما ضج به العالم من محن وكوارث، ومآسي ومصائب.. لانه نظام لم يعترف
مذهبه الاجتماعي بغاية الا اسعاد هذه الحياة المحدودة بمختلف المتع
والشهوات.. ولم يقم يوماً على القيم الروحية والخلقية.
ان هذا النظام.. قد انبثقت منه الكثير من المآسي.. ورافقته العديد
من الفجائع.. وكان يعبر في كل مرة عن نفسه بوجه شائه.. كالح.. متوحش
رغم تبرقعه بأقنعة الديمقراطية والانسانية والمساواة.. ان اولى رزاياه
تتمثل في تحكمه بالاقليات الاثنية ومصالحها ومسائلها الحيوية.. بحجة ان
الاكثرية هي التي تملك زمام الحكم والتشريع ـ هي عقلية الديمقراطية
الرأسمالية ـ وهي عقلية مادية خالصة في اتجاهها، ونزعاتها واهدافها
واهوائها.. فمن يحفظ لهذه الاقليات كيانها الحيوي ويذب عن وجهها الظلم..
وحقاً ان الاستهتار بالكرامة الانسانية كان من قبل افراداً بأمة..
واصبح في ظل النظام الرأسمالي من الفئات التي تزعم انها تمثل الاكثرية
بالاقليات، التي تشكل اعداداً كبيرة من البشر.
اما المأساة الاخرى والتي كانت نتاج هذا النظام فتقع في الجانب
الاقتصادي حيث اجازت الحرية الاقتصادية مختلف اساليب الثراء والوانه
مهما كان فاحشاً، ومهما كان شاذاً في اسلوبه وسببه.. وهكذا انكشف الامر
بعد انتشار الآلة التجارية عن ثراء فاحش من جانب الاقلية.. يقابله فقر
مدقع يعم الاكثرية.
وهكذا تضاءلت الفئة الوسطى واقتربت الى المستوى العام المنخفض، وامر
طبيعي ان لاتعطف الفئة القليلة المتخمة بالغنى على الاكثرية المحطمة..
ولا لتنتشلهم من الهوة وتشركهم في مغانمها الضخمة.. اذ كيف تفعل ذلك
مادام المقياس الخلقي هو المنفعة واللذة.. وما دامت الدولة تضمن لهذه
الاقلية الحرية فيما تفعل، وما دام النظام الرأسمالي يضيق بالفلسفة
المعنوية للحياة ومفاهيمها الخاصة ؟!.
ان ثلاثين مليوناً من البشر يعيشون في الانفاق.. ويقتاتون من
النفايات في اكبر واغنى دولة في العالم.. الا وهي الولايات المتحدة
الامريكية.. التي تمثل النموذج الرأسمالي وبكل مساوئه وخطاياه اللعينة..
في الوقت الذي ترمي فيه بملايين الاطنان من الحبوب والاغذية في
المحيطات وتتلفها تحت ذريعة الحفاظ على المستوى العام للاسعار.
ان الحديث عن المساواة في الحقوق السياسية بين افراد الامة المثبت
في دساتير الدول الرأسمالية لم يعد بعد هذه المآسي الا خيالاً وتفكيراً
خالصاً.. حيث تقهر الحرية الاقتصادية الحرية السياسية وتصادرها ويصبح
التشريع والنظام الاجتماعي خاضعاً لسيطرة رأس المال الذي تتحكم به
الاقلية.. بعد ان كان المفهوم الديمقراطي من حق الامة جمعاء.. ويصح
القول بأن الديمقراطية الرأسمالية تعود في نهاية المطاف حكماً تستأثر
به الاقلية.
ونصل هنا الى افضع حلقات المأساة التي يمثلها هذا النظام.. فأن هذه
الاقلية المتحكمة والتي وضع النظام الرأسمالي في ايديها كل نفوذ،
وزودها بكل قوة وطاقة.. وبدافع من شرهها ومصالحها الذاتية.. سوف تشعر
بحاجتها الى مناطق نفوذ جديدة.. بعدما وصلت ماكنتها الصناعية الى
الانتاج الوفير والذي تعجز الاسواق الداخلية عن استيعابه واستهلاكه..
لان اكثر الامة معوزة تعاني الفاقة.. كل ذلك يجعل كبار المنتجين في
حاجة ماسة الى اسواق جديدة لبيع المنتجات الفائضة فيها.. وايجاد تلك
الاسواق يعني التفكير في بلاد جديدة، ناهيك ما بهؤلاء من حاجة شديدة
الى المواد الاولية التي تعظم الانتاج وتزيد من طاقته الانتاجية.. وقد
استنفدت معظم المواد الاولية في البلاد الرأسمالية لذلك فهي تنزع الى
البلاد الاخرى للسيطرة عليها واستغلال مواردها واستعمارها.
وهكذا ولهذه الاسباب ولغيرها قامت الدول الرأسمالية بالاعتداء على
البلاد الآمنة وانتهكت حرمتها ومرغت كرامتها وسيطرت على مقدراتها
وموارها الطبيعية.. وابادت ما ينوف على المائة مليون من الهنود الحمر
في امريكا الشمالية والجنوبية واستعبدت افريقيا وقتلت ونهبت وخربت ثم
جالت في اسيا تقتيلاً وتفريقاً ومآسي.. كل ذلك أمر معقول وجائز في عرف
المصالح الفردية التي يقوم على اساسها النظام الرأسمالي والاقتصاد
الحر.
ذراع الرأسمالية في المنطقة العربية
ويتجدد اليوم عملاق المادة يغزو و يحارب، يقيد ويكبل، يستعمر
ويستثمر إرضاء للشهوات واشباعاً للرغبات.
ان ذراع الرأسمالية العالمية في المنطقة متمثلاً بدويلة اسرائيل
الصهيونية والتي جرت الويلات على الامة العربية وخاصة الشعب
الفلسطيني.. وتحت اسنة الحراب الامريكية.. حتى اذا ما عجز عن قهر
الإرادة العربية والاسلامية وسحقها تماما كما كان يمنّي نفسه.. نزلت
الدول العظمى المتمثلة بالانظمة الرأسمالية والتي تتزعمها امريكا الى
الساحة.. لتحطم القوى العربية المتطلعة الى وحدة الامة العربية وحريتها
وكرامتها.. وكأن نظرتها المادية قد اغشت ابصارها من رؤية الحق.. فراحت
تشعل الحرائق في العالم من نكازاكي الى دير ياسين الى ملجأ العامرية
الى البوسنة والهرسك الى فلسطين الى العراق ولبنان وغزة وما كان لها ان
تفعل كل ذلك لولا تخاذل الانظمة العربية والاسلامية وحكمها الاستبدادي
الشمولي والذي مهد لظهور الحركات الدينية التكفيرية والتي عمقت من
اشكالية النهوض الحضاري للامة واعطى مبررا آخر للقوى الاستعمارية لان
تزيد من هيمنتها على المنطقة وتسبب لها المزيد من الكوارث. |