وحده إنهاء الانقسام واستعادة الوضع الوطني الفلسطيني لعافيته
الكفاحية، ما يمكن أن يعيد غزة إلى فلسطين، منهيا حصارها الشامل ومن كل
الجهات، كونها جزء من الكل الفلسطيني، وهي وحدها لا تختزل كل القضية،
إلاّ إذا دارت "سكرة الهيمنة" دورتها كاملة لدى البعض المهيمن
"وبالقوة" على رمزية ما تمثله غزة في إطارها الطبيعي؛ كجزء من
الجغرافيا والديموغرافيا والسياسة الفلسطينية، لينحرف بها ومعها نحو
مآلات غير تلك التي تريدها الأكثرية الكاثرة من الشعب الفلسطيني.
الشعب – الكل الذي من الطبيعي أن تتمحور حوله، وحول قضيته – الأصل
وليس الفروع، أو ما تفرع من تلك القضية من جزئيات هنا أو هناك، كل نأمة
وكل حركة في استهدافها التعبير عن تضامنها ومساندتها للقضية الفلسطينية
وحركتها الوطنية؛ ذلك التضامن الذي يجري توجيهه للأسف، باتجاهات فئوية
مؤدلجة، فالمتضامنون من كل المشارب قد لا تستهويهم الأيديولوجيات
الفئوية الضيقة، على ما يذهب بعض "المحليين" من المتضامنين، وهم من
يفترض بهم أنهم أبناء القضية، أو أشقاء خلص لأبناء القضية، عبر رفعهم
لشعارات فئوية ضيقة، تدين أناسا يشاركوننا التضامن وفعاليات تضامنية
وكفاحية عدة، داخل الوطن ومن الخارج أيضا.
ومن أسف أن أولئك "المحليين"، إنما هم جمهور تلك السلطة المهيمنة
على قطاع غزة منذ منتصف العام 2007، دون أن تدرك أو يدركوا أن يهودا
يشاركوننا أهداف الكفاح ضد كيان الاستيطان والاغتصاب الصهيوني لبلادنا،
وأن مسيحيين وغيرهم من ديانات أخرى وممن لا دين لهم، هم أكثر تقدما في
تضامنهم معنا عبر العديد من الأشكال، الأجدى والأنفع من شعارات لفظية
لا تسمن ولا تغني، بل هي قد تستعدي بعض أطراف التضامن من اليهود ومن
قوى اليسار تحديدا.
صحيح أن الجريمة الإسرائيلية مدانة بكل المقاييس، لكن بالمقابل،
مطلوب وبكل المقاييس كذلك أن يذهب تضامننا مع أنفسنا، أقصى حدود
المسؤولية والانحياز إلى ناس القضية وقضايا الناس، فهي الأبقى والأجدى
والأنقى؛ أما الرهان على موقف أميركي أو أوروبي من هنا أو هناك، فذلك
مؤشر للتشبث بالمواقف الإنقسامية إياها، تلك التي أوردتنا وأوردت قضية
الشعب الفلسطيني موارد تهلكة، باتت تستدعي رؤى أوسع من تلك الرؤى
الفصائلية أو الفئوية الأضيق.
الآن.. ونحن في اليوم التالي للجريمة، وبعد أن خمدت حرارة المواقف
العاطفية وردود الأفعال وما أشاعته من توترات، وتوقفت المزايدات عند
حدود الشعارات المستفزة أحيانا، والتي دائما ما تكرر ذاتها في لحظات
التأزم وفي احتداد واحتدام الصراع، وخروجه عن نمط طالما اعتدنا على
معايشته والتأقلم معه، وسط هذا الخراب، ينبغي العودة إلى "كلام العقل"
والمواقف العقلانية، قبل أن تذهب بها رياح العنتريات الأرضية المتضمنة
في خطابات البعض الذي لا يرى في مآسينا ومصائبنا سوى "انتصارات" وهمية،
"انتصارات إلهية"، طالما جرى ويجري توظيفها في تقنيع هزائمنا، وأوضاعنا
المتردية، وأحوالنا التي لا تسر صديقا.
لذا تعالوا نعيد للعقل سلطته الوازنة، سلطة العقل الرائية إلى عمق
الصراع، كونه نتاج الوقائع والمكونات المادية للمسألة اليهودية –
الصهيونية التي نشأت بالأصل في أوروبا، وعبر تداعيات ما خلقته عندنا من
مقاربة أو معادلة القضية النقيض، على ما أمست تجسده القضية الفلسطينية،
قضية أرض وشعب ووطن، بعيدا عن أيديولوجيات التوظيف الاستعمالي – من أي
جهة أتت – هذه القضية والصراع عليها ومن أجلها، تحتم اليوم وأكثر من أي
وقت مضى، إدراكا واعيا وإدارة خلاقة، لا تسمح بترك أي فراغ في خطوط
الصراع، وإلاّ صار البعض أداة من أدوات صراع إقليمي أو صراعات
أيديولوجية قوموية وإسلاموية، جل ما يستهدفه أصحابها أن يؤول إليهم
القرار السياسي بمواصفاته المصلحية.
ولئن انتهت أو تنتهي الآن جولة من جولات الاحتشاد التضامني مع غزة،
فإن المعركة من أجل فلسطين؛ كقضية وطنية تختص بشعب كامل، عانى ويعاني
مرارات اللجوء والتشريد منذ العام 1948، مستمرة، وينبغي أن تبقى كذلك،
دون الخضوع لآوهام مفاوضات عبثية، أو اعترافات وهمية بسلطة فئوية هنا،
أو سلطة غير مكتملة الشرعية هناك.
إن احتشادا تضامنيا أوسع وأشمل، ممكن في القادم من الأيام،
وإمكانيته بالتأكيد أعلى في ظل العودة عن خطوات الانقسام السياسي
والجغرافي، والتسليم بأهداف الوطنية الفلسطينية ومشروعها الكفاحي
التحرري الذي يعاني اليوم جناية تغييبه، والتلهي بمشاريع سلطوية كرست
وتكرس مصالح اجتماعية وطبقية نخبوية طفيلية وزبائنية.
ومهما تكن السياسات اليومية التي تجعل من أهدافها أولوية لخدمة
المشروعات السلطوية، لتصب ماءها في هذا الطاحون أو ذاك، فإن الخروج من
حلقة الانقسام، يؤكد اليوم راهنية ضرورة العودة للاحتكام إلى القانون
الأساس للنظام السياسي الفلسطيني، من قبل القائمين على وجهي عملة
السلطة، بالعودة إلى الانتخابات كوسيلة أو أداة هامة لإعادة وحدة قوى
المشروع الوطني. أما الرهان على وهم "مفاوضات مجدية" من هنا، ووهم جدوى
"ممانعة" من هناك؛ تزين لها اتصالاتها واحتشاداتها التضامنية، وكأنها
الخطوة ما قبل الأخيرة في المسار الكفاحي الطويل، أو انتظار وقوع
إسرائيل في منزلقات أخطاء جديدة كمبرر لإدانتها، ورفع الصوت عاليا
ضدها؛ هذا كله لا يخدم سوى الأهداف الفئوية والنرجسية لهذا الطرف أو
ذاك، فيما قضية الشعب الفلسطيني الوطنية تبقى في مهب الريح، تتطلب
مقاربة جديدة، وإعادة التأكيد على تعريفها؛ كونها قضية تحرر وطني من
احتلال تنبغي إزالته، لا التعايش أو التأقلم مع وجوده جاثما فوق كامل
الوطن، أو في جزء منه. |