خريف العمر والوحدة يلتقيان عند دخول الباب

دار رعاية المسنين في محافظة كربلاء.. أملُ مَن لا أملَ له

تحقيق: ميثم العتابي

 

شبكة النبأ: يمر العمر عليهم، ليجدوا انفسهم بين جدران غريبة، يقسامهم الغرفة أناس لايعرفونهم سوى انهم يتقاسمون الهم ذاته، ويتشابه الأمس من حياتهم مع يومهم فهو الذي قادهم إلى هنا، منهم من عزف عن الإقتران والزواج واختيار شريك الحياة، فأدى به الأمر ان يكون وحيدا وكتب عليه ان يقضي أيامه المبتقية يرقب اللاشيء، ومنهم من تمردت عائلته وأبنائه عليه، فكان مصيره سرير في دار المسنين، ليواصل الأبناء حياتهم ظنا منهم انهم تخلصوا من ثرثرة كبار السن، في الوقت الذي لم ينتبه فيه الأبناء ان أصحاب هذه الثرثرة هم من جعلوا لحياتنا معنىن عبر تضحيتهم وسهرهم وتنشأتهم لأبنائهم، وهم من ذكرهم الله تبارك وتعالى في أكثر من مكان حاثا على الرأفة بهما، وحبهما وتقديم الإحترام والتقدير والعيش الرغيد لهما.

(شبكة النبأ المعلوماتية) توجهت نحو دار رعاية المسنين التابع لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية في كربلاء، لتلقي الضوء على جانب مهم ومغيب من حياة منسية ركنت في الظل لأناس ليس لديهم من يرعاهم..

الحاجة (احتشام مجيد الهر) مديرة دار المسنين تحدثت قائلة،" تأسست دار رعاية المسنين في كربلاء في العام 1991، وكانت حالتها آنذاك يرثى لها، إذ كان عدد العاملين في الدار ثلاثة فقط، في الوقت الذي أصبح فيه عدد العمال اليوم عشرين عاملا وعاملة، أيضا كان المستفيدين من الدار ستة عشر من المسنين فقط، بين رجل وامرأة، اما اليوم أصبح العدد المستفيدين من المسنين ستين شخص، هذا كله بالإضافة إلى الخدمات الأخرى في الدار، والتي كانت بائسة جدا، فقد كانت الدار تحوي على تلفزيون واحد في الصالة العامة، وثلاجة ومجمدة واحدة، اليوم هناك تلفزيون وثلاجة في كل غرفة ومكيف هواء ومدفئة، هذا بالإضافة إلى الخدمات الأخرى من المجاميع الصحية والحمامات، أما الكسوة التي كانت توزع فقد كانت واحدة ومن الملابس المستعملة (البالات)، لكن اليوم أصبحت الكسوة شتوية وصيفية وبواقع ثلاث مرات في الموسم، هذا بالإضافة إلى المتبرعين، والذين يقومون بعملية التوزيع بأنفسهم حتى يتسنى لهم حالة من الإطمئنان النفسي، وبهذا يدخلون نوع من الغبطة والفرحة على نفوس هذه الشريحة من المجتمع. هذا بالإضافة إلى راتب المقيم في البيت الذي كان سبعة آلاف دينار فقط ولشهرين، اما اليوم فقد أصبح ثلاثين ألف دينار للشهر الواحد فقط.

وأضافت المديرة لـ شبكة النبأ،" يكون القبول عبر لجنة مشكلة في الدار، والسن حالة أساسية ومن أولويات الدار، فللنساء يكون العمر خمسة وخمسون عام، اما الرجل فيكون العمر ستون عام، وهي ضوابط لايمكن التلاعب بها، ذلك ان الأعمار ما لو صارت دون المقرر ستحدث مشاكل نحن في غنى عنها، وبالإضافة لضوابط العمر، هناك ضوابط اخرى، ولكنها ليست ضرورية، مثال ذلك السكن، فنحن لانلتزم بسكنة كربلاء فقط، فالدار يقوم بإيواء أيا كان، ذلك ان عملنا هو إنساني بحت، وأي حالة إنسانية ستكون في صميم عملنا.

وتابعت السيدة الهر قائلة،" هناك حالات كثيرة ممن قام بإيداع أبويه دار المسنين، وهي نسبة كبيرة جدا قياسا بإيواء المشردين او المعوزين، وللأسف تردنا حالات كثيرة من هذا، وهذا كله بسبب المشاكل العائلية التي تؤدي في نهاية المطاف بإيداع الأبوين دار المسنين، وهي حالات مثيرة للعاطفة ومحزنة جدا، ولاتنسجم مع واقعنا الإسلامي أو العربي، وبالتالي هي ليست بأخلاقنا، فهذا ليس مصير الآباء، وخصوصا الأمهات، وهناك حالات أكثر غرابة فبعد ان يضع الأبناء أبويهم في دار المسنين، يقومون بإستنزافهم عبر سحب كل ممتلكاتهم وتجريدهم عنها، فعلا هناك الكثير مما نراه هنا في الدار محزن ومثير للشفقة. أيضا أحب ان أضيف مسألة مهمة وهي العزوف عن الزواج بالنسبة للرجل أو المرأة، إذ يعد هذا العنصر عامل أساسي في مسألة دخول دار المسنين، حيث يجد الإنسان نفسه في نهاية المطاف بلا عائلة أو أي شخص يعتني به، وهذا ما ستجدونه هنا.

وأضافت المديرة،" وتعتمد الدار بشكل كامل على الدعم الوزاري، ولكن هناك المنفذ الخاص بمجلس المحافظة والسيد المحافظ، من العيديات (هدايا نقدية) التي يقدمونها للمقيمين في الدار، والتبرعات الخاصة لهم، بالإضافة إلى العتبتين المقدستين الحسينية والعباسية فقد أولت عنايتها للدار، وهذا ينعكس أيضا على الحكومة المحلية، فالجميع ولله الحمد متعاون معنا، ويذكرنا ويمد لنا كل ما نحتاجه، وهنا نذكر بالخصوص وزارة الصحة ودائرة كربلاء، فعملها يعد إسنادا لوزارة العمل والشؤون الإجتماعية، ذلك ان دائرة الصحة في كربلاء مشكورة قد هيأت لنا كل متطلباتنا، خصوصا وان المقيمين في الدار من كبار السن، لذا كلهم بحاجة إلى إستشارات ومراجعات طبية، وأدوية، لذا وفرت لنا دائرة الصحة كل ما يتعلق بهذا الشأن. حتى انهم احتفلوا بيوم الصحة العالمي ها هنا في دار المسنين.

وبعد حديثنا المطول مع السيد مديرة دار المسنين انتقلنا للتجوال في الدار، لنكون على مقربة من الصورة التي رسمناها، رافقنا آنذاك المشرف وأمين المخزن (عباس علي محسن) وهو يتحدث لنا عن عدد الأسرّة والغرف قائلاً،" عدد الأسرّة يكون بحسب حجم الغرفة، إذ لدينا غرف تحوي على خمس او ست أو أربع أسرّة، وهذا لايؤثر على نوعية الخدمة التي تقدم في كل غرفة، فذات الخدمات مقدمة هنا، ولافرق بين غرفة وأخرى، فكما ترون هناك جهاز التلفزيون، والثلاجة، والأسرة وكل ما يتعلق بمتطلبات واحتياجات الغرفة. وكما ترون لدينا عشرين عاملا بواقع عمل أربعة وعشرين ساعة.

(صبيحة عبيد جسام) الممرضة المسؤولة عن الدار حدثتنا عن عملها، وعن طريقة وصول الأدوية والأطباء الاختصاص فقالت لـ شبكة النبأ،" نحن أربع منتسبين في المفرزة الطبية، اختصاصاتنا التمريض، لدينا ثلاث شفتات واحد نهاري والآخر مسائي وشفت ليلي، وتقوم المفرزة بالعلاج الأولي، من قياس الضغط والحرارة والسكر، وهو علاج اولي، أما الى الحالات التي تحدث أثناء الدوام الرسمي، والمستعصية منها نقوم بتحويله إلى المستشفى، أيضا لدينا غرفة خاصة بالمفرزة الطبية وتحوي على الأدوية الخاصة والاجهزة التي نحتاجها في الدار، أيضا لدينا أطباء متخصصين يزورون الدار دوريا، ومنهم اخصائي عيوني ومفاصل وباطنية، وهناك جدول خاص بمواعيدهم تصدره دائرة صحة كربلاء، أما العلاج فلدينا طلبية شهرية تجهزنا بها دائرة الصحة بحسب الإحتياجات التي نضعها، بالإضافة الى طلبية الشعبية الشهرية، أيضا هناك علاج الامراض المزمنة تجهزنا بها العيادات الشعبية بحسب دفتر المريض الصحي.

وبعد جولة في أروقة الدار وحديث مسهب مع الموظفين والمنتسبين، ورؤيتنا لتفانيهم في عملهم وخدمتهم لكبار السن من قاطني الدار، كان لنا وقفة وحديث مع كبار السن ممن تنصلت عنهم الحياة او هم من تنصل عنها، فأصبحوا بعد مضي العمر رفاق هذه الأسرة القريبة والغرف الصغيرة، يتقاسمون أيامهم وويستجمعون ذكرياتهم..

نزيلة الدار الحاجّة (ام أحمد) من محافظة كربلاء قالت،" أنا هنا منذ خمسة أشهر تقريبا، الخدمة جيدة جدا وبشكل متواصل، جئت إلى هنا بنفسي لأنني لاأملك أحدا يقوم على خدمتي ويلبي حاجتي، لدي ابن واحد، وهو يعمل سائق سيارة خارج كربلاء. اما زوجي فقد استشهد في الشعبانية المباركة، ونحن لانملك بيتا، في السابق كنا نستأجر بيتنا، اليوم أصبح الإيجار مرتفع، هو يسكن اما مع اصدقائه أصحاب السيارة، او في السيارة ذاتها، ولكنه يجيئني بين فترة واخرى، ويرى متطلباتي واحتياجاتي. وما جاء بي إلى هنا غير إمكانياتنا الضعيفة وعدم مقدرتنا على فتح بيت انا وأبني، ولو كان هناك إمكانية بسيطة لديه لما جئت إلى هنا ابدا".

وتحدثت الحاجة (أم علي) عن وجودها في دار المسنين أيضا فقالت لـ شبكة النبأ،" أنا هنا منذ ثلاث سنوات، احد الاقارب دلني على هذا المكان، زوجي قد توفي، ونحن لم ننجب قبلا، أبناء وبنات اخوتي هم من يزورني الان بين فترة واخرى، والخدمة هنا كما ترون، جيدة ورائعة، وهذا يؤكد اخلاق من يعمل هنا، وحبهم لذويهم واهلهم، فهم يعاملونا على إننا من ذويهم، من امهاتهم وآبائهم، بالإضافة إلى الخدمة المتواصلة خلال أربعة وعشرين ساعة في اليوم".

وتحدثت الحاجّة (أم جعفر)، من بغداد، عن مجيئها لدار المسنين في كربلاء فقالت،" لدي ولد استشهد في مرحلة الإرهاب التي عصفت بالعراق بعد العام 2003، وبعده توفيت ابنتي أيضا، ولم يبق لي أحد، خصوصا وان أباهم توفي قبلهم، هكذا شاء الله سبحانه وتعالى، ان اكون وحدي، والحمد لله على كل حال، اخترت دار المسنين في كربلاء لأنني أعلم مدى الرعاية الجيدة هنا، وبحمد الله كما ترون الخدمة رائعة وجيدة من ناحية الأكل والشرب والخدمة الصحية والطبية وغير ذلك، حتى ان الدار تقوم لنا بزيارات للمراقد المقدسة، وهذا يسعدنا كثيرا، ويرفه عنا.

واضافت،" هنا تشعر بالاحترام والتقدير، وهذا يساعدنا كثيرا على تمضية أيامنا في دار المسنين كأننا عائلة واحدة"..

الحاج (ستار عبد الجبار) من مواليد 1945 في الأصل من محافظة ديالى وهو من سكنة بغداد انتقل إليها في ستينيات القرن الماضي للعمل هناك، حيث كان يعمل إداريا في مراكز التجنيد، حدثنا عن تجربته في دخول الدار، وكيف وصل إليها فقال لـ شبكة النبأ،" مضى على دخولي أكثر من عام، وهذا كله كان بسبب أبني المعوق، إذ لم يبق لي من زوجتي التي توفيت في الثمانينيات إلا هو، ولكن زوجتي الأخرى لم تقبل ان يعيش معنا، خصوصا وان له اخوة واخوات من هذه المرأة التي تزوجتها بعد وفاة والدته، فأودعته في دور الرعاية حين كان صغيرا، وكنت انتقي له هذه الدور في بغداد، واليوم أصبح كبيرا على ان يبقى في دار رعاية، فهو من مواليد 1976، لذا كنا امام خيارين، إما ان نسكنه معنا في بيتنا ببغداد، أو نرسله إلى دار الحنان للمعاقين في كربلاء، وفاتحت زوجتي بالامر، فأصرت على موقفها برفضه وعدم قبوله، في الوقت الذي أبدى أولادي برغبتهم ان يكون معهم، رغم ان عوقه لايتعد ان يكون إعوجاجا في ساق واحدة، لذا ماكان لي بد إلا إحضاره إلى دار الحنان في كربلاء، وبعدها أهتديت إلى دار المسنين هذا، فتقدمت بطلبي إليه أيضا حتى أكون قريبا من أبني، وهو الآن بحاجتي أكثر من أي وقت، لقد سبق وفقد أمه، لاأريد ان يفقد أباه أيضا، إذ حين يجيء كربلاء سيكون من المتعذر علي ان ازوره كل اسبوع مثلا وبهذا تكون هذه التجربة قاسية عليه جدا. للأسف زوجتي لم تتخذ أي خطوة من شأنها ان تغير هذا الوضع، وأولادي لايعصون لأمهم امر. ولكن الحمد لله، أنا هنا مرتاح والأهم من هذا كله قريب من ولدي.

الحاج (سامي ناجي) الذي هو أقدم مقيم في دار رعاية المسنين في كربلاء وهو من مواليد الحلة 1933 قال،" أنا أقدم واحد في دار الرعاية، لم أكن متزوجا، وكنت عازفا عن الزواج، ولدي أخت واخ، هم لديهم عوائلهم الكبيرة أيضا، وحالتهم الإقتصادية بالكاد تكفي عوائلهم، فما كان مني إلا ان ادخل دار رعاية المسنين، ولذا انا أعطيك صورة واضحة عما كان عليه الدار في السابق وكيف أصبح اليوم، هناك فرق كبير جدا، وهذا ما لمسناه نحن هنا بصورة مباشرة.

ومن منطقة الكاظمية حدثنا الحاج (علي عباس أبو حسين) الذي كان وضعه ميسورا وغنيا، ولكن بعد هرب أخيه خارج القطر ووفاة زوجته وابنائه في حادث سير تغير وضعه تماما، فقال،" جئت إلى دار رعاية المسنين في العام 2002، قبل هذا الوقت كان وضعي جيد جدا ولله الحمد، ولكن بسبب احد اخوتي كان استاذا في الجامعة التكنولوجية وكان ذو نشاط سياسي ومعارض للبعث الظالم، هرب اخي الصغير، فضيق البعثيون المجرمون علي وأخوتي الخناق، فهرب أخوتي البقية وبقيت انا، وتلقيت شتى انواع التضييق، وبعدها توفيت عائلتي في حادث، تركت كل شيء تقريبا، إتجهت إلى الله تعالى، وجئت إلى هنا.

محطتنا الأخيرة كانت عند (حسين عبد الامير حسن) وهو من بغداد حي الجهاد، فني متقاعد في القوة الجوية، حدثنا عن قصته فقال لـ شبكة النبأ،" الخلافات العائلية هي التي جائت بي إلى هنا، بعد أكثر من أربعين سنة من الزواج، فرق بيننا الراتب التقاعدي، الزوجة أرادت الراتب التقاعدي الذي سجلته لها أيام النظام السابق، فخيرتني الدولة بين الراتب التقاعدي وعملي في البلدية، اخترت العمل في دائرة البلدية، ولكن زوجتي لم تريد ذلك، وهكذا .. خرجت من البيت من فوري متجها إلى كربلاء دون علم احد، وبعد أشهر من البحث، وجدتني بنتي الكبرى وجاءت إلي، لتُرجعني، ولكنني آثرت البقاء هنا، الحمد لله ها انا أمضيت اكثر من عام، اشعر انني بين اخوتي واهلي.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 6/حزيران/2010 - 21/جمادى الآخرة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م