أتابع بقلقٍ أخبار الخسائر التي تعرضت لها المصارف الإسلامية،
فللمرة الأولى وعلى لسان محافظ البنك المركزي (رشيد المعراج) نسمع أن
المؤسسات المالية الإسلامية لم تستطع تفادي الأزمة المالية العالمية،
وكشف عن التراجع في عمليات بعض هذه المصارف، والأضرار التي لحقت ببعضها
الآخر، والتي حالت دون عودتها إلى ممارسة نشاطها بنفس الزخم؛ بسبب
تراجع السيولة والانخفاض الكبير في قيم الأصول التي تحتفظ بها.
يأتي هذا الإعلان بعد سلسلة تصريحات وردية تكلمت كلها عن أن
البحرين قد اجتازت مخاطر الأزمة بصورة مباشرة وغير مباشرة.
كنا نعتقد أن المؤسسات المالية الإسلامية التي تتخذ من البحرين
مقراً لها قد نجت من التأثيرات التي عصفت بكثير من البنوك التقليدية
بخاصة في الغرب؛ وذلك نتيجةً لعدم تعامل المصارف الإسلامية في
المضاربات المالية والأسهم الوهمية والمشتقات الأخرى التي تتنافى مع
الشريعة الإسلامية، إلا أن اعتقادنا قد اصطدم بواقع مؤلم! هذا الواقع
الذي أصفه بالأخطبوط الرأسمالي الذي مد خيوطه في كل مفاصل المال
والاقتصاد في العالم، فقد كُويت بموجبه جميع المؤسسات المالية نتيجة
الفساد والجشع اللذين يهيمنان على هذا النظام الربوي.
المؤسسات المالية الإسلامية خطت خطوات حثيثة، وتوسعت أنشطتها بشكل
ملحوظ، وازدادت أصولها التي فاقت التصور؛ مما حدا بالبنوك الأوروبية
لفتح فروع لها تعمل وفق الشريعة الإسلامية، ليس رغبة في تطبيق النظام
المالي الإسلامي، بل طمعاً في الأموال المودعة في هذه المؤسسات.
ومع توسع أنشطة المصارف الجديدة، خصوصا في الخليج وجنوب شرق آسيا (بالأخص
ماليزيا) وزيادة أرباحها، وعدم تأثرها بصورة مباشرة بالأزمة العالمية،
ارتفعت أصوات داخل البيت الإسلامي وخارجه بضرورة إصلاح النظام المالي
الإسلامي وتوسعة تعاملاتها ومنتجاتها، والمطالبة بإعادة النظر في
الأدوات المالية. بمعنى آخر، التماشي مع النظام المالي العالمي،
والتقرّب من البنوك التقليدية التي تهيمن عليها المضاربات.
بورصة ماليزيا على سبيل المثال أصدرت بياناً ذكرت فيه أن “هناك حاجة
شديدة إلى وجود منتجات متنوعة تلائم مختلف أذواق المستثمرين، يدعمها
قدر كاف من الرقابة التنظيمية التي تحمي المصلحة العامة، من أجل خلق
مشهد استثماري إسلامي جذاب.
عدد كبير من علماء الشريعة المختصّين قاوموا ضغوطات بعض الجهات
الرسمية لدفع هذه المؤسسات للتعامل بالمشتقات والأدوات المالية
التقليدية التي لا تخلو من الشبهات، وعدد آخر يرى ضرورة إيجاد مخارج
شرعية للتعاملات المصرفية وفقاً لمقاصد الشريعة. الجدل والخلاف بين
علماء وفقهاء الشريعة رافق صناعة الصيرفة الإسلامية منذ انطلاقتها،
فهناك من يفتي بجواز “التورق” و”التحوط”، وهناك من يُحرّمهما. على سبيل
المثال (الشيخ عصام إسحاق) المستشار الشرعي لعدد من المصارف الإسلامية
في البحرين أجاز نظام “التورق” بشروط، وذكر أنه “إذا كان هناك نقل فعلي
لسند الملكية والحيازة بين ثلاثة أطراف وحق لكل طرف أن يحتفظ بالسلع
موضوع التورق دون الالتزام بنقلها إلى أي طرف من الطرفين الآخرين حتى
تكتمل دائرة التورق فلا مشكلة في ذلك”، بينما (مجمع الفقه الإسلامي)
المنبثق عن (منظمة المؤتمر الإسلامي) أصدر بياناً حرّم بموجبه التورق
المنظم.
ونفس الإشكالية برزت في موضوع نظام التحوط المعمول به في الغرب،
ومعظم دول المنطقة. وصندوق التحوط يعتبر صندوقًا استثماريًا يشترك في
تأسيسه مستثمرون كبار، وفلسفة الصندوق تقوم على ضمان تحقيق ربح
للمستثمر فيه بصرف النظر عما قد يحدث في أسواق العالم من التقلبات،
وتتبنى استراتيجية استثمارية تهدف إلى التحوط أو الحيطة من مخاطر
التعرض لأي خسارة. الأرقام تشير إلى وجود ثمانية آلاف صندوق تحوط في
العالم.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل نجت هذه الصناديق من الأزمة المالية؟
الجواب قد نجده على لسان مديري الصناديق الاستثمارية أنفسهم الذين
اجتمعوا في دبي الشهر الماضي لمناقشة تداعيات الأزمة المالية على
صناديقهم، والذين كشفوا أن نصف أموالهم قد تبخرت جراء الأزمة المالية.
دول الاتحاد الأوروبي باستثناء بريطانيا قررت فرض إجراءات رقابية على
صناديق التحوط.
في بداية الشهر الماضي أصدر سوق المالية الإسلامية الدولية ومقرها
البحرين أول وثيقة للمشتقات الإسلامية، وعلى أساسها اعتبر استخدام
الأدوات المالية الإسلامية ضد مخاطر الائتمان جائزا شرعاً، وهذا يعني -
وبصريح العبارة - التحاق المصارف الإسلامية بالبنوك التقليدية وليس
العكس.
المشتقات المالية كانت ولا تزال من أسباب الخلاف بين فقهاء الشريعة.
. . بين من يرى جواز الدخول في المخاطر المالية ولكن باحتياط، وبين من
يرى فيها نوعًا من أنواع المقامرة والربا المحرّم.
باعتقادي، سبب كل هذا الخلاف والاختلاف يرجع إلى عدم وجود نظرية
مالية إسلامية! وما لم يُملأ الفراغ، تبقى صناعة الصيرفة الإسلامية
تابعة للنظام الرأسمالي الذي يعاني أصلاً من الأمراض والأزمات. |