الأحداث الساخنة والخطيرة تحتاج لعقول باردة للتعامل معها، وليس من
حدث راهن اليوم بسخونة وخطورة القرصنة الإسرائيلية لقافلة الحرية التي
تمثل عنوانا ورأس حربة لرأي عام عالمي يتزايد يوميا مطالبا برفع الحصار
عن غزة من منطلقات إنسانية غالبا، وهو حدث غير منفصل عن جهود رفع
الحصار المتزامنة مع فشل المفاوضات وتعثر المصالحة.
الهجوم على قافلة الحرية أخذ بعداً عاطفياً إنفعالياً كبيرا بسبب
العنف الإسرائيلي، وبعداً دولياً بسبب وقوعه في المياه الدولية، ولكنه
لم يُثر إلا القليل من التفكير العقلاني حول مآلية حملات رفع الحصار
وكيفية رفعه والوظيفة الحقيقية للحملات الدولية لرفع الحصار وخصوصا في
ظل استمرار الحالة الفلسطينية والعربية على انقسامها. عندما تتقدم
العاطفة وثقافة الصورة على العقل، وتتغلب الحسابات الحزبية
والأيديولوجية الضيقة على حساب الرؤية الواقعية العقلانية للتعامل مع
الحدث من منظور المصلحة الوطنية، آنذاك فإن الواقع سيعيد انتاج نفسه
مرارا ولكن بصورة أكثر مأساوية، أو ستكون إنجازات متواضعة لا تصب في
المصلحة الوطنية حتى وإن تم تمرير الإنجاز كانتصار من هذا الفريق أو
ذاك.
مَن كان يعتقد أن قافلة الحرية وغيرها من القوافل البرية أو البحرية
وحدها سترفع الحصار كليا عن غزة سيكون واهما، فليس هكذا يتم حل مشكلة
سياسية معقدة، ذلك أن حصار غزة غير منفصل عن مجمل ما تتعرض له القضية
من مخاطر ولا ينفصل عن السياسات الإقليمية والدولية المحيطة بالقضية.
مهمة قافلة الحرية هو تسليط الأضواء على معاناة أهل غزة وتبليغ رسالة
عن تأييد قطاع واسع من الرأي العام العالمي لشعب فلسطين ورفضه للإحتلال
الصهيوني وممارساته، وبالتالي يمكن القول بأن قافلة الحرية حققت هدفها
ضمن هذه الرؤية بالرغم من الثمن الباهظ الذي دفعه المشاركون فيها.
أما الذين يراهنون على هذه الحملات وعلى الرأي العام فقط لرفع
الحصار فسيجانبهم الصواب من حيث أن الحصار قد يرفع اقتصاديا وإنسانيا
ولكن حل أبعاده السياسية يحتاج لآليات مغايرة، وحتى من يستشهد أو
يستحضر ما جرى في جنوب افريقيا أو فيتنام – بالرغم من الاختلاف بينهما
والحالة الفلسطينية- حيث كان لتحرك الرأي العام العالمي دور في محاصرة
النظام العنصري في جنوب افريقيا وفي تسريع انسحاب الولايات المتحدة من
فيتنام فعليهم التذكر بأن الأمور حسمت في الحالتين رسميا على طاولة
المفاوضات بين القيادة الوطنية الموحدة في البلدين و دولة الاحتلال
ويقرارات دولية.
لقد نجحت قافلة الحرية في المياه الدولية وغيرها من حملات مساندة
الشعب الفلسطيني في تأكيد ثلاث حقائق:
1. الحقيقة الأولى: إن إسرائيل دولة إرهابية لا تتورع عن انتهاك كل
الشرائع والقوانين الدولية سواء تعلق الأمر بممارساتها ضد الفلسطينيين
في نطاق سيادتها المستمدة من كونها دولة احتلال كالعدوان على غزة وكل
الممارسات الإرهابية في الضفة وغزة وهي الجرائم التي وثقها تقرير
جولدستون، أو تعلق الأمر بممارساتها خارج حدودها والتي تدخل في إطار
الإرهاب والقرصنة الدولية، كجريمة مدرسة بحر البقر في مصر وجريمة قانا
في لبنان أو اغتيال المبحوح في دبي ومغنية في سوريا وقصف موقع في سوريا
بذريعة أنه ينتج مواد كيماويه أو نووية، أو قصف قافلة في أقاصي السودان
وقبل ذلك عشرات الجرائم في أكثر من بلد أوروبي وعربي.
2. الحقيقة الثانية: إن قطاع غزة يخضع لحصار جائر يفقد كل يوم
مبررات استمراره ويستحث مزيدا من الناس من كل الجنسيات لمحاولة كسره،
وهؤلاء الذين قتلتهم أو اعتقلتهم إسرائيل من على ظهر السفن يمثلون رأيا
عاما عالميا متعاطفا ومؤيدا للشعب الفلسطيني ورافضا للسياسة
الإسرائيلية، وبالتالي يجب إنهاء هذا الحصار.
3. الحقيقة الثالثة: إن عدالة القضية الفلسطينية لا يشوبها شائبة
وأن إسرائيل وبالرغم من إرهابها وما تحققه على الأرض بإرهابها سواء
بالاستيطان أو التهويد او الاعتقالات والاغتيالات، فإنها تخسر التاييد
والتعاطف الدولي يوما بعد يوم.
نجحت قافلة الحرية وما سبقها من حملات مؤيدة للشعب الفلسطيني في كشف
زيف المبررات الأخلاقية والقانونية الدولية للحصار وخصوصا بعد العدوان
على القطاع بداية 2009، ولكن لا يجوز أن نبالغ لدرجة الجزم بأن هذه
الجهود الشعبية تكفي لكسر الحصار نهائيا أي الحصار كجزء من قضية وطنية
متعددة الأبعاد. ذلك أنه مقابل هذه التوجهات الشعبية نحو كسر الحصار
تقابلها تصورات مغايرة لرفع الحصار ومواقف دولية لا تتناسب مع توجهات
الراي العام و متغيرات عميقة تمس النظام السياسي الفلسطيني كنظام يقوم
على وحدة الضفة وغزة جغرافيا ووحدة السلطة سياسيا، وأهم هذه المتغيرات:
-
1- تزايد الحرج الذي تشعر به أنظمة عربية وإسلامية بسبب المواقف
الشعبية المتعاطفة مع الفلسطينيين والمطالبة برفع الحصار عن غزة، و
ممارسة هذه الأنظمة لعبة الهروب للأمام بمجاراة الجماهير في شعاراتها
بدلا من التصرف كدول في التعامل مع مجمل الصراع في المنطقة. ويبدو أن
هذه الأنظمة استحسنت التعامل مع القضية الفلسطينية من بوابة رفع الحصار
عن غزة بدلا من التعامل معها كقضية صراع عربي إسرائيلي وحتى كصراع
فلسطيني إسرائيلي، فثمن سياساتها لرفع الحصار عن غزة سيكون أقل كلفة
مما لو نهجت سياسة المواجهة مع إسرائيل وواشنطن.
2- ظهور مواقف دولية تسعى لتغيير طبيعة الصراع في المنطقة من خلال
تجزئة القضية الفلسطيني لقضية غزة ورفع الحصار عنها وقضية الضفة وإيجاد
حل للاستيطان ولسبل التعايش ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين هناك.
3- فشل المصالحة الفلسطينية الداخلية حتى الآن حيث تم تعليق
المصالحة على الورقة المصرية دون التفكير بمداخل أخرى للمصالحة.
4- تثبيت سلطة حماس في قطاع غزة كسلطة حمساوية شمولية لا تتعدى
ولايتها القطاع، وتثبيت سلطة فياض وحركة فتح في الضفة كسلطة حكم ذاتي
مقتصرة على الضفة ولا تتعدى ولايتها جزءا من الأرض.
5- إفشال إسرائيل المتعمد للمفاوضات لأن هذه المفاوضات تقوم على
اتفاقات تقول بالوحدة الجغرافية لغزة والضفة وبوحدة السلطة الفلسطينية
وبالولاية السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
6- استمرار التهدئة بين حركة حماس وإسرائيل وهي تهدئة تشمل مجمل
الاراضي الفلسطينية من البحر إلى النهر.
7- إعتراف حركة حماس بدولة فلسطينية في الضفة والقطاع وهو ما أعاد
التأكيد عليه الدكتور احمد يوسف قبل أيام والشرط الوحيد الذي يشترطه هو
مشاركة حماس في الحكم، وهي مشاركة قائمة في قطاع غزة.
8- تصريحات السيد خالد مشعل الاخيرة بأن لا مشكلة بين حركة حماس
وواشنطن لا داخليا ولا دوليا.
ضمن هذه المتغيرات فإن الحصار سيُرفع اليوم أو غدا، وعليه سيكون
الفلسطينيون أمام مفترق طرق: إما أن يُرفع الحصار بقرار مصري منفرد أو
دولي /عربي، في ظل الانقسام، أو يتم رفعه في ظل مصالحة وطنية، والسؤال:
ما هو مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني ما بعد رفع الحصار عن غزة،
والذي قد يكون قريبا وعلى مستوى فتح معبر رفح، إن لم تحدث المصالحة قبل
ذلك أو لم يكن رفع الحصار ضمن صفقة فلسطينية أو عربية، تكون المصالحة
جوهرها؟.
لنذكر مرة أخرى بأن الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة يدخل ضمن مخطط
سياسي استراتيجي وبالتالي فالمخططون الإسرائيليون يريدون رفع الحصار
بعد أخذ الثمن في إطار صفقة سياسية أو تسوية سياسية يجري الإعداد لها،
سيرفعون الحصار عن القطاع عند استكمال حلقات هذا المخطط الذي يحقق
نجاحات على الأرض كما سبق الذكر، أيضا هناك دول وحركات سياسية تسعى
لرفع الحصار عن القطاع ولكن ضمن رؤيتها السياسية الخاصة المتعارضة مع
المشروع الوطني الفلسطيني، وهذه الجهات تعتبر رفع الحصار عن القطاع،
حتى إن أدى لتكريس فصل غزة عن الضفة وتكريس كيان سياسي منفصل في غزة،
نصرا لمشروعها الإسلامي العالمي، وهذه الأطراف لا ترى في مسعاها هذا
خيانة للقضية الفلسطينية بل مدخلا مغايرا للتعامل مع القضية ومع الصراع
في المنطقة، ومسعى هذه الأطراف يجد قبولا تكتيكيا من مراكز قرار
أمريكي.
في المقابل لا نرى أو نسمع، لا من مسؤولين سياسيين أو كتاب ومفكرين
وطنيين، عن وجود استراتيجية فلسطينية أو تصور لمواجهة هذه المخططات،
استراتيجية تعمل على رفع الحصار في إطار وحدة المشروع الوطني حتى وإن
كان رفعا جزئيا يقتصر على فتح معبر رفح. خارج إطار الورقة المصرية التي
أصبحت متجاوزة، لم نسمع من مسؤول أو حزب فلسطيني عن إجابة أو تصور
لمستقبل النظام السياسي الذي يقوم على وحدة الضفة وغزة تحت سلطة واحدة
لما بعد رفع الحصار عن غزة، لم نسمع عن تصور أو رؤية استشرافية لمستقبل
المشروع الوطني برمته، سواء كان مشروع السلطة أو مشروع التحرر الوطني،
إذا ما تم رفع الحصار عن القطاع خارج إطار المصالحة الوطنية.
هل لأن الموضوع لم يخطر على بال أحد؟ هل لأنهم فكروا به ولا يجدوا
إجابة ففضلوا الصمت ؟أم لأنهم، أو بعضهم، لديهم الإجابة والتصور ولكنهم
لا يجرؤوا على البوح به ويتركون الواقع لبفرض نفسه ويتحدث عن نفسه؟. أم
ان هناك في التسوية الامريكية القادمة إجابة على هذه التساؤلات ؟.
لأننا لم نفقد ثقتنا بقيادتنا فما زلنا نراهن على إمكانية تدارك الأمر
واستباق ما يُخطط من مؤامرات لتدمير المشروع الوطني، بتجديد جلسات
حوارت المصالحة بسرعة و إن إقتصر جدول الأعمال على إيجاد آلية لفتح
معبر رفح بما لا يؤدي لحالة قطيعة ما بين غزة و الضفة وبما يحفظ وحدة
الشعب الفلسطيني ووحدانية التمثيل الفلسطيني.
Ibrahem_ibrach@hotmail. com |