في مجالس "شيّاب" الأربعينات من القرن الماضي تسمع للـ"الشيّاب"
دويا كدوي النحل كلما عرج الحديث بهم الى عين عذاري ويومياتها. فيقال
فيما يقال: إذا ما كنتَ من أهل المنامة ودعتك نفسك للتعرف على حجم عين
عذاري ومقدار تدفق المياه فيها؛ فعليك بالنظر إلى آخر "ساب" يمر لهذه
العين في قرية الزنج وبمحاذاة "دار المجانين"، ولست بحاجة إلى استعارة
حمار تمتطيه لتدلف به إلى العين ذاتها، فلربما يكلفك ذلك بعض"الآنات"العزيزة.
البحث عن الدليل التجريبي أو الاستقرائي في أحوال عين عذاري ومدى
حيوية منابعها عند "ساب" الزنج في زحمة ضنك المعيشة - كان أحد الحوافز
الشعبية على اختلاق المثل المشهور محليا: "عين عذاري تسقي البعيد
واتخلي القريب".. وإذا ما جئت أنماط الأمثلة الشعبية؛ سترى تفوق هذا
المثل على بقية الأمثال في حياتنا المعاصرة، حتى تشتد بك الحاجة إلى
تصور "ساب" الزنج كلما وددت قراءة الوقائع السياسية الراهنة، أو قرنتها
بالتاريخ السياسي السبعيني فاستعنت فيه بأي منهج بحث شئت. فـ"الساب" في
الأحوال كلها دليلك البعيد إلى كشف مدى شدة نبع عين العين أو ضعفه.
فبينما كانت يوميات النشاط الديمقراطي السبعيني على شفا حفرة من
الفوضى الاجتماعية لما نال الناس من أذى إزاء احتدام أوار النزاعات بين
الجهات الدينية والماركسية الأممية والقومية والاشتراكية البعثية
المعارضة من جهة، وبين التيارات كلها مشتركة والمكر السيئ للسلطة
التنفيذية ولما كانت تخفي أو تبدي في الصدور من جهة أخرى - قيل آنذاك
أن هذه الفوضى لا يمكن قراءتها بشكل علمي موثق إلا من خلال متابعة
تقارير الصحافة الكويتية "الساب" البعيد: لأن الإعلام البحراني كان
منشغلا بمهمة "وطنية" أحادية الجانب لم يفتأ يفخّم فيها "آباء"
الوليدين المشوهين"الدستور" و"البرلمان" وما صدر عنهم من مراسيم عَلِمَ
الناس أنها كانت تترى ولم تتوقف للحظة عن الصدور حتى بلغ "البرلمان"
مبلغ الحلم فكان كفوا للاستجابة لمرسوم التسريح عن وظيفته وتجميد العمل
بـدستوره ، في وقت كان مراسلو الإعلام الكويتي "مخيمين" في صالة
البرلمان وعلى اتصال دائم بفعاليات المعارضة في البحرين وخارجها لرصد
ردود الفعل كافة.
الآن ، وقد انطفأت منابع عين عذاري، وغاب معنى "الساب" وبقي مفهومه
في أذهان أطفال وشبيبة القرى الواقعة بين عين عذاري وقرية الزنج، وتعرف
أهل الكويت على ملهى "عين عذاري" ومَثُلَ عندهم المَثَل: "عين عذاري
تسقي البعيد واتخلي القريب" وصار جزء من ثقافتهم فضلا عن ثقافتنا..فكيف
هي الأحوال السياسية مع غياب معاني "الساب" البعيد و"العين" الغزيرة؟
المتفائلون بالعمل السياسي الإيجابي من خلال "المشاركة" غُرر بهم
على مراحل هادئة ساكنة.. والمنكفئون على الكلفة الأقل ضررا يهيمون في
كل وادي فيفخِّمون ويتفخمون في دوائرهم المغلقة.. وطلاب الاستقرار على
حساب الحق العام اتسعت رقعتهم الجغرافية في المسافة الفاصلة بين هؤلاء
"المتفائلين" وهؤلاء"المنكفئين" .. وقليل من العباد الصابرين المطالبين
بالحق في الإرث الثقافي والتاريخي العادل يكافحون عند مداخل القرى
ومخارجها وغير عابئين بخطورة الثمن الذي سيدفعونه لقاء هذا الكفاح
مادامت القافلة تسير ولو بركب من أعجاز الإبل.
واما ظواهر أمور الإصلاح الملكي فهي على نهج سبعيني متخلف: برلمان
بغرفتين لا سكن ولا سكينة فيهما ، ميثاق ودستور تسمو صلاحيات الدواوين
الرسمية كافة على نصوصهما ، وزارات سيادية هي لِبُوس لهوية طائفية على
ولاء خاص ، صحافة محلية متضخمة مفخِّمة وتنتظر الآجلة أو العاجلة تبعا
لما يسفر عنه حسن تبعلها، جمعيات سياسية منقلبة على إرثها الفكري
والسياسي استجابة لضرورات الواقع، وجهات حقوقية رسمية لاهثة وراء ما
تبقى من عطايا في طريقها للنفاذ.. وليس لأي مراقب من حاجة للبحث عن
"ساب" بعيد موصل لعلم تفصيلي أو إجمالي لعين بحرانية أو لدالة عليها في
الكويت أو في أي بلد آخر .
فكل الأمور أصبحت تجري في "شفافية" ملكية تامة ولكنها بقيد من
التخلف السياسي المعزز بسند دعاوى الولاية ، حتى يخيل إليك إنْ بصرت
بـهذه "الشفافية" شيئا لا تفقه كنهه؛ انك بدأت تتصالح مع ذاتك لتقر
:إنها جزيرة البحرين وفي طريقها إلى تحقيق تنمية شاملة ومستقرة وموصلة
إلى جنة الخلد!.. بينما الحقيقة إذا ما تمعنت النظر إلى تجلياتها بلا
كشف ولا شهود محرم وعلى مسافة لا تزيد على بعد "ساب" الزنج عن عذاري؛
سترى "حصان طروادة" ضخم الجثة وقد توارت في داخله كل المكونات السياسية
، ومن خلف هذا الحصان الخشبي حشد من أشباه الرجال يزجون بركب الحصان في
وسط الجزيرة وأناسيها تحت مظلة شرعية معلِقة لكل آمال الناس إلى حين
يثبت بالقطع واليقين أن الناس في طور التيه لأربعين عاما ، فإذا ما
انقضى أجل التيه وخلد كل مواطن فيه مهانا؛ حينئذ يكون لزاما على الجميع
النظر إلى "ساب" الزنج ليشهدوا بأنفسهم غور ماء عين عذاري ثم يمتثل كل
واحد منهم لنداء المسؤولية ،فالكل راع حينئذ! |