شبكة النبأ: يحكي لنا التأريخ عن
شخصيات وقادة سياسيين أفنوا حياتهم في سبيل شعوبهم وأممهم، وتخلوا عن
جميع الرغبات والمصالح ذات الطابع الشخصي أو العائلي او الفئوي، وذهبوا
بعيدا في مسار التضحية والايثار من أجل أن يقدموا للآخرين أقصى ما
يمكنهم من الافكار والاعمال التي ترفع من شأنهم وتحافظ على كرامتهم
وتحسّن حياتهم نحو الافضل دائما.
ومثل هؤلاء القادة يتمتعون بنكران ذات منغرس في عقولهم وقلوبهم
ويشكل الجزء الأهم من كينونتهم فتراه مخلصا وفيا غيوا نقيا بفطرته
ولهذا السبب يكون مثل هؤلاء القادة كالهبة الإلهية لشعوبهم كونهم يحمون
شعوبهم ويحققون لها أفضل الطموحات والتطلعات المشروعة في العيش الكريم
والعمل والانتاج والتعاون والاتحاد حتى تصبح هذه الشعوب مثالا يحتذى به
من لدن الشعوب والامم الاخرى.
ولذلك غالبا ما تجد مثل هؤلاء القادة في قمة الزهد والاخلاص لدرجة
أنهم لا يعبؤون بأهواء النفس ومزايا الدنيا بأي حال من الاحوال، وهم
بذلك يكونون على أهبة الاستعداد لتنفيذ أفكارهم على الواقع فيكونوا
كالمنقذين لشعوبهم من مآسي الحرمان وما شابه، إذ يقول المرجع الديني
الراحل الامام آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)
في كتابه الثمين الموسوم بـ (الى العالم) في هذا المجال:
(إن الإنقاذ ليس لفظاً فارغاً، ولا وصفاً عنوانياً، ولا يتحقق بمن
يفكر في أكله ولباسه ومسكنه ومركبه).
بمعنى أن المواصفات التي ينبغي أن يتحلى بها القائد السياسي يجب أن
تكون قمة في الاخلاص والتفرغ لانجاز هذه الاهداف، حيث يضيف الامام
الشيرازي قائلا في هذا الصدد:
(إن من أراد الإنقاذ لا يتمكن من جمع الأمرين: الدنيا المترفة،
والإنقاذ الواجب عقلاً وشرعاً).
إن السياسي المخلص هو من يسعى بجدية الى رفع الحيف عن الفقراء وأن
يجعل من حياته قربانا لتحقيق حرية الآخرين وحماية كرامتهم الانسانية
المتمثلة بالقضاء على الفقر والمساواة والحرية والتعايش والتنوع
والانفتاح والعيس بسلام وتواد وتراحم بين الجميع، ولعلنا نفهم ونؤمن
بأن مثل هذه الاهداف العظيمة تتطلب شخصيات قيادية عظيمة تنذر نفسها
وحياتها لمثل هذه الاهداف، إذ يؤكد الامام الشيرازي في كتابه نفسه
قائلا في هذا الصدد:
المطلوب (أن يعوّد العامل للإنقاذ نفسه على -التفرغ لانجاز أهدافه-
وذلك مما لا يحصل على الأغلب مع التزامه بشؤون الحياة الشخصيّة
والعائلية برغد ورفاه).
بمعنى ثمة تقاطع بين أن يسخّر القائد نفسه لمآربه الدنيوية
والعائلية وغيرها وبين أن يضع نفسه وحياته كاملة في خدمة الأمة التي
تحتاج خدماته في الفكر الانساني المتنور وفي القيادة المخلصة لتحقيق
تطلعات الملايين التي تتطلع إليه بعيون المحبة والامل، بيد أن
الاشكالية تكمن في طبيعة العصر (المادي) الراهن وانجراف الجميع نحو
محاسن ومزايا الحياة المادية الزائلة، حيث فرضت الحضارة المادية (الغربية)
توجهاتها على العالم أجمع، إذ يقول الامام الشيرازي في هذا المجال:
(إن الحضارة الماديّة جرفت كل القيم والموازين والأعراف، سواء في
بلادهم أم في بلاد المسلمين أم في بلاد العالم الثالث، لذا لا يمكن
الوقوف أمامها بالتهريج والدعاية ومجرد الشعارات الفارغة، ولا يمكن
حينئذ إرجاع البشرية إلى طريق الصواب، فإن الأمر أعمق وأكثر هولاً من
هذه الأمور).
هذا يعني أننا بحاجة الى قادة عظماء يتفرغون على نحو تام لتحقيق
الاهداف الكبيرة التي لن تتحقق إلا بالتفرغ والابتعاد عن رغائب النفس
وأهوائها، وهذه هي السمة التي ينبغي أن يتحلى بها قادتنا وبغيرها لا
يمكن مجاراة ما يحدث في الواقع العالمي الراهن مما تبثه وترسخه الثقافة
الغربية من قيم واخلاق ونماذج حياة لا تليق قط بالمسلمين او الناس
الاسوياء على وجه العموم، حيث تحاول هذه الثقافة سلب الكرامة الانسانية
من خلال اشاعة نماذج من السلوك الخالي من المزايا والسمات الانسانية
التي لا يجوز التفريط بها مطلقا، لأن:
(الحضارة الماديّة ليست إلاّ جهالة، والعقل هو المقابل للجهل، وكما
أن للعقل جنوداً، فإن للتعقل ألف جند وجند، وحيث لم يظهر إلى الآن تعقل
بالمستوى المطلوب، لا في العالم الغربي، ولا في العالم الإسلامي، ولا
في العالم الثالث، تجري الحضارة الماديّة في مجراها المرسوم لها، بل
يزداد الأمر كل يوم إعضالاً).
لذا فإن غياب القادة المخلصين العظماء الزاهدين سيزيد الطين بلّة
وسوف يتدهور الوضع العالمي بسبب نمو المادية المقيت على حساب
الانسانية، حيث سادت قيّم المادة التي لا تترك مجالا لقيم الرحمة
والتعاون والمؤزرة التي تنبع من الذات والفطرة ولا تقف وراءها
البراغماتية البعيدة عن مجتمعاتنا الاسلامية، وطالما كانت المادية
الغربية تسيطر على عصب الحياة فإن مساوئها كثيرة وتبقى تتنامى باضطراد،
إذ يقول الامام الشيرازي في كتابه نفسه:
إن (الفقر الجارف منتشر ــ حتى في بلادهم ــ كما ذكرت بعض التقريرات
من أنفسهم، أن في أمريكا وحدها ثلاثين مليون فقير، وأن في أوروبا 22
مليون عاطل).
من هنا كان لابد لقادتنا اليوم أن يتفرغوا كليا لتحقيق الاهداف
الانسانية العظيمة للإمة كما كان يفعل قادتنا العظماء كالامام علي بن
ابي طالب (ع) أثناء قيادته للدولة الاسلامية، وهذا الامر يتطلب
استعدادا فطريا مدعوما بالالتزام الديني والانساني من قبل قادتنا في
العصر المادي الراهن. |