لم يعد الانقسام السياسي والجغرافي الفلسطيني، ينتمي في سياق "تجذّره"
الراهن، إلى طبيعة الخلاف والتباين السياسي، بين طرفين "يحوزان" قوة
فرض كل منهما لذاته، كونه يمتلك "رصيد شرعية" يمكن زيادتها إلى سلطته،
بل إن تفارق الطرفين بات يضع حدودا قصوى لخلاف أعمق؛ سياسي واجتماعي،
فكري وأيديولوجي، أضحى يفيض عن مرجعية ومشروعية ما يمكن أن نطلق عليه
"الحق بتولي زمام السلطة"، بقدر ما أضحت الأمور – واقعيا – تتجه
للمطالبة بشرعية وحق كل طرف في فرض أيديولوجياه الخاصة، المستندة إلى
مشاريع خارجية، لم تعد تلامس المشروع الوطني التحرري مجرد ملامسة ولو
عابرة.
وهو مشروع بات اليوم يتعرض لأعتى هجمات ترذيله، في مقدمة لتدميره
على مذبح الرهانات والالتحاقات الإقليمية، قوموية كانت أو إسلاموية
الطابع.
هناك مشروع وطني تحرري، لم يعد، أو لا يمكن إعادة توصيفه اليوم،
بأنه ائتلافي أو جبهوي، جامع لكل أطراف العمل الوطني، وممثل فعليا
لكامل قوى ومكونات الشعب الفلسطيني داخل الوطن وفي الشتات. وفي المقابل
فإن محاولة إبراز وتلميع مشروع نقيض؛ ذو طابع إسلاموي يرتبط خارجيا
بالتنظيم الأممي لحركة الإخوان المسلمين، لن تستطيع "تبليع"
أيديولوجياها الخاصة، على أنها أو كونها البديل الراهن للحركة الوطنية
الفلسطينية المعاصرة، ذلك أن نقصا فادحا في تمثيليتها سيبقى ملازما لها
ويعتريها، كونها فئوية بامتياز، وطائفية بأكثر من امتياز.
ولهذه الأسباب ولأسباب أخرى، لا يمكنها أن تبلغ سويّة "الممثل
الشرعي" أو تحوز على رصيد من الشرعية، أو المشروعية يؤهلها للخروج من
شرانق أضحت لصيقة بها، التصاقا تكوينيا، لا مجال للخروج منها، نظرا
لنزوعها الانقلابي وفئويتها واتجاهاتها وتوجهاتها التفتيتية، ومحاولة
استحواذها بالقوة على كامل الوضع الوطني، على قاعدة سلوكها الاستبدادي،
و"إيمانها" البطركي بخلود سلطة لها؛ دينية الطابع ودنيوية الشهوات
والمطامع.
إن وضعا بات يفتقد فيه الفلسطينيون وجود أي فاعلية لأي برنامج
سياسي؛ تكتيكي وإستراتيجي، يُجمع عليه محليا وإقليميا ودوليا، لن يقود
إلى تحقيق أي من المآلات التي راهنوا عليها جراء البرنامج المرحلي منذ
العام 1974، ناهيك عن غياب أو تغييب السمات البرنامجية الإستراتيجية،
على مذبح المنافسات الضارية، والصراعات غير المبدئية على هوامش سلطوية
أو منافع فئوية، أو انحيازات وتمحورات إلحاقية، جميعها أفقدت العديد من
القوى رؤاها الخاصة، فيما هي تستمسك ببرامج إقليمية، موظفة ذاتها
محامية عن "شياطين الآخرين"، دفاعا عن تلك البرامج التي لا تأخذ أي
اعتبار لوحدة الشعب الفلسطيني، أو لضرورة العمل على تصليب وحدة مشروعه
الوطني، حيث تجري محاولات استكمال تدميره، والانحطاط به، إلى درك قيعان
المستويات الاستتباعية والإلحاقية.
وبذا فإن واقع "الاستقلال" بغزة، ككسرة من مشروع التحرر الاستقلالي
والوطني الفلسطيني، يقدم لنا وللفكر السياسي بعامة، نموذجا حيا لفئوية
القائمين به، ومحاولتهم "تديين" ما هو مدني، أو "أسلمة" ما هو وطني،
وتحويله إلى مجرد شعارات آيديولوجية جوفاء. حتى المقاومة كمفهوم، لم
تنج من تلك العملية، فيما تحولت سياسة الهدنة والتهدئة، إلى سياسة ذات
طابع تحويلي وتوظيفي، أطاحت بالمقاومة كمفهوم تحرري، وحوّلته إلى مجرد
شعار سلطوي، تحت لوائه ولواء مسمّياته يجري ترذيل كل الأطراف الأخرى
والشعارات الأخرى، كونها تخلّت عنه في الماضي، كما تتخلى عنه هي الآن.
على أن "السياسات الاستقلالية" عموما، لم تبق فئة من فئات الشعب في
قطاع غزة، إلاّ وأصابتها في صميم حياتها اليومية، وأضرّت بها، دون أن
تقدّم لها أي عون أو أمل بتجاوز ظروفها المعيشية والحياتية القاسية
والصعبة، خاصة في أعقاب حرب "الرصاص المصهور" نهاية 2008 وبداية عام
2009، وما تلاها ويتلوها من هجمات عدوانية وحصار متواصلين، منذ حزيران
العام 2007 وحتى اللحظة. حيث تحوّل "العسكر" هناك إلى "ساسة القوة
الغاشمة"، في إحلال ليس بريئا لذواتهم، بديلا للسياسة التي تقود الناس،
وتستنبط البرامج الأكثر واقعية.
ومهما قيل عن الوجه الآخر للمقاومة، كمفهوم رائج، أي وجه المفاوضات
المطفأ كذلك، فكلا المفهومين يتعرضان للتشويه المتعمد من قبل القائلين
بهما، وابتذالهما إلى أقصى الحدود، وإذ يغرقان في مآزق متعددة، فهما
يدوران في الحلقة المفرغة، بل الحلقات المفرغة من أي دعم أو إسناد
لكليهما، إلاّ فيما يُضاد المصلحة الوطنية والأهداف العليا للشعب
الفلسطيني، حيث يجري إغراقها عمدا باللفظ الشعاري.
أما من يغرق في همّ مواجهة السياسات الإحتلالية الإسرائيلية، جنبا
إلى جنب هموم مواجهة ابتذالات الانقسام، وأضرارها الانحطاطية التي باتت
تلحق بالمشروع الوطني، فهو الشعب الفلسطيني، أغلبية هذا الشعب والكثرة
الكاثرة منه، على امتداد مساحات الوطن والشتات، في سعيها الدؤوب
والمخلص نحو رأب الصدع، الذي لم يبق للأسف كذلك، واستعادة وحدة الأدوات
الكفاحية للحركة الوطنية ومشروعها التحرري، وهي المهمة الأكثر راهنية
في مواجهة أضرار الانقسام، واستعصاءات التسوية واستحالتها الآن وفي
الغد، طالما يستمر التلاعب بقوى أساسية في ساحة العمل الوطني، وحين
يجري استخدامها مجرد أداة من أدوات مشروعات إقليمية تروم الهيمنة
والتنافس عليها مع قوى دولية، وهي في النهاية واحدة من أدوات الإضرار
ليس بوحدة الشعب الفلسطيني، بل وبقدراته وقراراته وإمكانياته، والأهم
التأثير في إرادته على مواجهة كيان الاغتصاب الاستيطاني فوق الأرض
الفلسطينية. |