الواقعية السياسية لا تعني الإستسلام للامر الواقع كما تُفهم عند
البعض، ولا تعني أيضا سياسة القوة المجردة والمبنية على المصلحة وتوازن
القوى كما تُفهم عند آخرين، الأولون يبررون عجزهم واستسلامهم للأمر
الواقع بالقول بأنها الواقعية السياسية، والآخرون يبررون عدوانهم
وهيمنتهم وتجردهم ما أي ضوابط أخلاقية أو قانونية بالقول بأنها
الواقعية السياسية.
السياسة الواقعية العقلانية تعني إعمال للعقل الجمعي للأمة في
الواقع، العقل الجمعي بما يتضمنه من ثقافة وتجسيد وفهم لمصالح الأمة هو
الذي يموقع الواقعية، إما كإستسلام وخضوع للأمر الواقع أو تجاوز وتطوير
لهذا الواقع، بمعنى أن الواقعية بحد ذاتها ليست أمرا سلبيا.
ومن هنا يمكن القول بأن الواقعية العقلانية للشعوب هي تحقيق الممكن
في الطريق نحو تحقيق الهدف الاستراتيجي إن كان العقل الجمعي للأمة مؤمن
ومتمسك بثوابت الامة ومصالحها الاستراتيجية. وعليه فالسياسة الواقعية
العقلانية ليست أمرا سلبيا بالمطلق بل هي في أجلى وجوهها تعني
العقلانية السياسية، وكل فعل سياسي على مستوى القرارات المصيرية للأمة
يجب أن يؤَسس على العقلانية وليس على تهويمات الايديولوجيا والأساطير
والتاريخ غير التاريخي، وعلى تخليق الممكن من وسط عدم واقع أو عدم
أحلام وأوهام. عندما تؤسس السياسة على الأيديولوجيات السياسية فقط،
وهذه الأخيرة انقسامية وحالة عابرة ومتقلبة، تصبح السياسة أسيرة لها
ويصبح مصيرها مرتبط بمصير الأيدلوجيا ومن يصيغها من أحزاب وزعامات.
أسوء السياسيين والأحزاب السياسية هم الذين يُغلبون الايديولوجيا
على العقل أو يفتعلوا قطيعة ما بين الأيديولوجيا والعقل، ذلك أن
المصالح الوطنية العليا والفعل السياسي المؤسس لها والمحافظ عليها لا
تقوم إلا على العقلانية السياسية، ولو عدنا لتاريخ الشعوب لوجدنا أن
الشعوب التي احتكمت للعقل والعقلانية هي التي أسست الحضارات وكُتب لها
الدوام، أما الشعوب التي انساقت وراء الأيديولوجيا أو حولت الدين
لأيديولوجيا يتلاعب بها القادة والسلاطين فقد تراجعت مكانتها وبعضها
تعرض للانهيار والزوال.
لا يعني هذا رفض مطلق لكل أيديولوجيا، فقد لعبت أيديولوجيات دورا
مهما في مراحل تاريخية من حياة الشعوب وخصوصا عندما عبرت عن ثقافة
وهوية شمولية لأمم تستنهض قواها في مواجهة تحديات خارجية، بل نقصد
الأيديولوجيا الجزئية التي تؤسس على حساب وحدة الأمة والأيديولوجيا
عندما تتحول لوعي كاذب للواقع. السياسة الواقعية يمكن ان توظف
الايديولوجيا بكل تلاوينها الدينية والدنيوية لاستنهاض المشاعر وكل
الرموز المستبطنة لتحويلها لمحفزات لبناء القوة الذاتية وكأداة في لعبة
موازين القوى، دون أن تصبح أسيرة لها.
لا تعني الواقعية العقلانية هيمنة القوى على الضعيف ولا خضوع الضعيف
للأمر الواقع الذي يفرضه القوي، بل هي نمط تفكير ونهج عقلاني في
الممارسة السياسة تقوم على فهم الواقع وموازين القوى التي تحكمه
والبيئة الداخلية والخارجية المؤثرة فيه، وتعني تجاوز للتفكير
الميتافيزيقي والاسطوري وما أقام من دول ونظم سياسية، وبالتالي ارتبطت
في مسار التطور السياسي للأمم بوجود قيادة سياسية قومية ذي بصيرة وتعرف
ما تريد، ومشروع سياسي قومي يشكل الحاضنة لهذه السياسة والقيادة. ولو
عدنا لتاريخ الواقعية والعقلانية السياسية في الغرب مع عصر النهضة ثم
الأنوار والذي جاء على أنقاض فكر وأوضاع القرون الوسطى سنلاحظ تساوق
التفكير العقلاني والواقعي المتحرر من الميتافيزيقا والايديولوجيا
والتاريخ مع ظهور النزعة القومية بما هي تطلع كل شعب ليعبر عن هويته
وشخصيته في اطار دولة خاصة به، أي مواكبا لوجود مشروع قومي محل توافق
غالبية طبقات وفئات الشعب.
إن علاقة جدلية تقوم ما بين ظهور الدولة القومية والعقلانية
السياسية، فما كانت أوروبا ستخرج من عصر الظلمات، وما كانت العلمانية
كمظهر من مظاهر العقلانية، إن لم تكن هي العقلانية السياسية، وما كانت
الثورة الصناعية لتكون، لو لم تظهر النزعة القومية ثم الفكر والدولة
القومية، بل حتى الديمقراطية ما كانت ستأخذ السيرورة التي صيرتها ما هي
عليه اليوم لولا التحالف ما بين الدولة القومية والعقلانية السياسية.
هذا لا ينفي أن شعوبا أخرى سارت في سياق مختلف كالولايات المتحدة
الأمريكية وكندا، فهذه الدول لم تمر بنفس سيرورة تطور الدولة والأمة في
أوربا فحتى اليوم ما زالت في مرحلة بناء الدولة القومية، ولكن ما عوضها
عن الدولة القومية هو دولة المؤسسات التي قامت على العقلانية السياسية
واحتضنتها.
في التجربة السياسية العربية الإسلامية ستتشيأ الدولة والسياسة و
يتشكل العقل السياسي بشكل مغاير، حيث العلاقة بين العقل والدولة والدين
أخذت سياقا مغايرا من حيث الشكل والمضمون والسياق التاريخي. ففي الوقت
الذي أخذت فيه الواقعية والعقلانية السياسية شكل تمرد الشعوب الأوروبية
على التاريخ السياسي للقرون الوسطى باعتباره متعارض مع العقلانية،
وتمرد على العقل الفقهي السياسي االمسيحي حيث شكل حالة خارجة عن النص
المقدس والمسيحية الحقيقية، وفي الوقت الذي وجدت أوروبا في الدولة
القومية العلمانية الإطار الذي يجمع ويوفق من جانب بين السياسة التي
تقوم على الواقعية والعقلانية والفكر الوضعي ومن جانب آخر المسيحية
الحقيقية (النص المقدس) التي تقبل بلعب دور الخادم للدولة القومية
المُجسدة لإرادة الأمة، في هذا الوقت كان المسلمون يؤسسون لمفهوم للأمة
وللدولة لا يستمد من إرادة الأمة والعقد الاجتماعي والعقلانية، فهذه
أمور لم تكن معروفة في الفقه السياسي ولا في التاريخ السياسي، وحتى من
حاول من علماء المسلمين– كابن رشد - استحضارها من الثقافة السياسية
اليونانية ومن فهم عقلاني للقرآن، حيث للعقل حضور أكبر مما هو في
التاريخ السياسي والفقهي كما يذهب كثير من المفكرين المسلمين، فقد ووجه
بعنت شديد.
طوال أكثر من ألف سنة والمسلمون والعرب يعيشون أزمة دولة وسلطة
وعلاقتهما بالدين، وغموض في علاقة العقل بالنقل أو الإيمان والعقل، هذا
ناهيك عن غموض في مفهوم الامة وعلاقته بالوطنية والقومية، أكثر من ألف
سنة والعقل السياسي العربي والمسلم تائه وغارق في تجريبية لا توصل
لليقين بقدر ما تعمق من الإشكالات المطروحة، وإن كان إبن رشد عبر عن
إشكالية العلاقة بين العقل والدين فإن ابن خلدون طرح إشكالية العلاقة
بين العقيدة والدولة، وبين العصبية والدولة عندما قال في مقدمته
المشهورة يصف الحال السياسي للمسلمين منذ عهد معاوية بن أبي سفيان، إن
الخلافة تحولت إلى ملك عضوض كملك العجم. حتى محاولات مصلحي عصر النهضة
العربية لإستعادة العقل والعقلانية وإيجاد حالة مصالحة بين مقتضيات
العصر والإسلام ومشروع الدولة القومية العربية باءت بالفشل لأسباب
داخلية ولأسباب خارجية أيضا، وليس الحاضر بالأفضل حيث تأخذ محاولات
استنهاض الحالة العربية والإسلامية شكل الرجوع للتاريخ الإسلامي ولفقه
إسلام سياسي لا يعبر عن الإسلام الحقيقي إن لم يكن معاديا له.
ومن اللافت للانتباه أن ما تسمى اليوم بالصحوة الإسلامية، وخصوصا ما
يندرج منها تحت مسمى الإسلام السياسي، تعيش حالة انقسام وفرقة حتى ان
ما يفرقها أحيانا من تصورات وتفسيرات واجتهادات دينية لها تمظهرات
سياسية، أو خلافات سياسية بأبعاد دينية، أكثر مما يوحدها ويجعل منها
كتلة واحدة في مواجهة عدو مشترك، وهي الاختلافات التي تتمظهر اليوم في
تباين مواقفها من الدولة والسلطة والديمقراطية والقوانيين الوضعية الخ.
يمكن أن نستنتج مما سبق بأن تعثر الواقعية والعقلانية العربية على
مستوى الفكر والممارسة السياسية في القرن العشرين يعود لضعف بل غياب
المشروع القومي العربي الجامع وغياب الدولة القومية كحاضنة لهذه
العقلانية وكمحفزة لها، بالإضافة إلى عدم الحسم بالاتفاق على طبيعة
العلاقة بين الإسلام والحكم السياسي. عالج مفكرون عرب منذ بداية القرن
العشرين هذه الإشكاليات وإن بصياغات مختلفة، بدءا من السؤال لماذا تقدم
الغرب وتخلف المسلمون ؟ إلى التساؤلات المعاصرة حول تعثر الديمقراطية
والتنمية وارتكاس كل محاولة نهضوية عربية وأزمة الدولة الوطنية وصعود
المذهبية والعرقية، وهي تساؤلات بقيت بغير إجابة بل يمكن القول بأن
استجابة المجتمعات العربية لتساؤلات عصر النهضة كان اكثر أهمية من
استجابة مجتمعاتنا ونظمنا السياسية اليوم للتساؤلات التي يطرحها مفكرو
اليوم، والملاحظة الاكثر إثارة وقلقا أنه كلما تراجع المشروع القومي
وتباعدت الدولة القومية وكلما تأزم المشروع الوطني والدولة القطرية لكل
قطر عربي، إلا وتراجع حيز الواقعية العقلانية لصالح فضاء تملاه إما
وقوعية واستسلام مطلق للأمر الواقع أو فكر سياسي واجتماعي مشوه بلا
مرجعية هوياتية واضحة لا قومية ولا وطنية ولا دينية أو عنف سياسي بلا
ضوابط أو مرجعيات واضحة.
صيرورة الواقعية العقلانية ممارسة سياسية على مستوى الأمة تحتاج إلى
ثلاثة مرتكزات:
1) العقل والعلم كمرجعية فكرية متجاوزة أو سابقة في الأهمية
للأيديولوجيا والاسطورة وللتاريخ السياسي
2) توافق وطني أو قومي على ثوابت أو مرجعيات وطنية أو قومية
3) قيادة حكيمة عقلانية في فكرها وثقافتها السياسية.
ومن هنا نلاحظ أن حضور السياسة االعقلانية الواقعية عند الدول التي
تهيكلت في إطار الدولة القومية أكبر من حضورها عند المجتمعات التي لم
تصل لمرحلة الدولة القومية، ففي الأولى تتكامل العقلانية الواقعية مع
الديمقراطية كنظام سياسي مع بناء القوة الاقتصادية والعسكرية. لا يعني
ذلك أنه في حالة وجود هذه العناصر المشكلة للعقلانية الواقعية في أكثر
من بلد سنكون أمام أنظمة ومجتمعات متشابه، ذلك أن لكل أمة عقلانيتها،
وعقلانية الامة لا تنفصل عن ثقافتها ومصالحها القومية، فللولايات
المتحدة الأمريكية عقلانيتها كما لليابان عقلانيتها، ولإسرائيل
عقلانيتها كما لتركيا والصين والهند عقلانيتها، وفي حالة الشعوب
الخاضعة للاحتلال كالحالة الفلسطينية فالعقلانية تعني وجود استراتيجية
واحدة وقيادة واحدة في إطار مشروع تحرر وطني، فالمقاومة تحتاج لممارسة
واقعية عقلانية والتسوية والسلام أيضا فعل عقلاني واقعي.
إن تبني أي دولة أو مجتمع للعقلانية الواقعية لا يضفي بالضرورة قيمة
أخلاقية مطلقة عليهما، فالدول تُشكل عقلانيتها إعتمادا على مصالحها
القومية بحيث يصبح العقل في خدمة المصلحة القومية، وحيث أن العلاقات
الدولية عبر تاريخ البشرية هو صراع حول المصالح القومية فإن العقلانية
الواقعية لا تسقط الصراع حول المصالح، إنها عقلانية على مستوى تعبيرها
عن مصالح الأمة وثوابتها ولكنها في المجال الخارجي لا تتورع عن توظيف
كل الأيديولوجيات والتاريخ والدين لكسب المواجهة مع من تعتبره عدوا،
ومن هنا نلاحظ ان صعود العقلانية الواقعية والتي أخذت اسم الحداثة
والتقدم والتحضر كان متزامنا مع المد الاستعماري واندلاع مئات الحروب
الأهلية والإقليمية وحربين عالميتين وتفشي أفكار عنصرية وفاشية الخ.
سواء كنا أمام سياسة ديمقراطية أو ثورية أو تحررية فالواقعية ضرورة.
الواقعية لا تعني الاستسلام للأمر الواقع بل فهم الواقع بكل سلبياته
وقساوته ثم وضع خطط استراتيجية لمواجهته وتجاوزه بما هو ممكن ومتاح من
مصادر القوة والقدرة، وعندما تكون السياسة متعلقة بعلاقات بين طرفين
فيها اختلال بيٌن في موازين القوى – كما هو الحال بين الشعب الخاضع
للاحتلال ودولة الاحتلال -، فإن واقعية الطرف الضعيف تأخذ شكل التدرج
في تحقيق الأهداف وتوسل كافة السبل لتحقيقها بما في ذلك شبكة تحالفات
دولية وإقليمية وما هو متاح من دعم وتأييد توفره الشرعية الدولية
والرأي العام العالمي، ولكن كل هذه العناصر الخارجية تشكل عوامل مساعدة
وداعمة للفعل الوطني، فبدون مشروع وطني يعبر عن فكر وثقافة وهوية وطنية
واستراتيجية وقيادة طنية فلن يكون هناك اي فرصة لإعمال العقلانية
السياسية وسيبقى الشعب الخاضع للاحتلال محل تجارب كل أيديولوجية جديدة
وكل حزب ناشئ فيما الواقع يتشكل حسب مشيئة العدو.
Ibrahem_ibrach@hotmail. com |