ليس المجتمع جسما موحدا تتحكم فيه
سلطة واحدة فقط وإنما هو في الواقع تجاور وارتباط وانتظام وأيضا تدرج
لسلطات مختلفة تبقى مع ذلك على خصوصيتها
بقي التفكير في السياسة عند العرب حبيس النظريات التقليدية الكبرى
التي جادت بها قريحة العلماء والفلاسفة الغربيين في زمن ايديولوجيات
الجنات الموعودة والحكايات الكبرى وظل أفق الانتظار محصورا في
المصطلحات والتجارب التي عاشتها الشعوب الأخرى وتجاوزتها مثل الانتقال
من حالة الحرب إلى حالة السلم ومن وضع البداوة إلى وضع الحضارة ومن
الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية عن طريق إبرام عقد اجتماعي يشارك
فيه مجموعة الأفراد الأحرار.
هكذا استمرت أمور مثل غرس الديمقراطية والتمتع بمنظومة حقوق الإنسان
وإجراء انتخابات حرة ونزيهة وتبادل سلمي وطوعي للسلطة وبناء مؤسسات
مستقلة وتمييز المجتمع المدني عن المجتمع السياسي مجرد مطالب وأماني
تنتظرها القلوب وتتوق إليها الأنفس وتفتقدها العقول.
كما أن الارتقاء بالأفراد من حال الرعية إلى درجة المواطنة ومن
المسايرة والمبايعة إلى المشاركة والتأثير ومن الاحتباس والانغلاق إلى
الحراك والمبادرة مسائل مؤجلة ومشاكل سيئة الطرح عند البعض وتحديات
زائفة عند البعض الآخر.
من هذا المنطلق ظهر مفهومان جديدان في الفكر السياسي المعاصر يمكن
التفلسف بشأنهما عسى أن يفضي ذلك إلى تحريك النظر في الشأن المدني
وتدبير الدائرة العلائقية الاجتماعية وفق خيارات مفترضة. هذان
المفهومان هما: التعددية السياسية Polyarchie الذي نجده عند روبرت داهل
في كتابه: من يحكم؟ والسياسة العمومية Politique publique والتي نظر
لها كل من هول ومولر وسورال .
إن الأمر الطارئ المداهم هاهنا ليس جلب دلالة هذين المصطلحين من
لغات الأعاجم إلى لغة الضاد بل الجمع بينهما ونحت مصطلح مغاير هو
السياسة العمومية التعددية Polyarchie publique. فما المقصود بهذا
الدمج؟ والى ماذا يفضي؟ وماهي الرهانات الجديدة التي يفتحها مثل هذا
المصطلح؟
أول ما يتبادر في الذهن حول هذا المفهوم المفترض السياسة العمومية
التعددية هو أن العمل السياسي في الأنظمة الديمقراطية الحقيقية يكون
ثمرة تفاعل واتفاق بين العديد من الأطراف سواء قوى اقتصادية أو جهات
إدارية متنفذة أو مجموعات ضغط أو نخب ثقافية ودوائر سياسية. كما أن
سلطة اتخاذ القرار موزعة على العديد من المركز بحيث تغيب الهرمية
وينتفي التمركز ويصير الجميع يمسك ببعض منها. أما الغرض من استنبات هذه
التعديدية فانه يتمثل في إبداع سياسة تصنع الوجود الأرحب وتمنع دخول
العدمية والتصحر المجال الحيوي للبشر وتقوم بإصلاح التعليم والمنظومة
العلاجية وتضبط النمو الديمغرافي بحيث تتوفر شروط الاعمار الدائم
للأقاليم وترفع من معدل الأمل في الحياة.
تحاول السياسة العمومية التعددية أن تتبع منهج التدبير المستمر
للعلاقات بين جميع الأطراف والمكونين للعبة الديمقراطية وذلك ب تهيئة
الظروف الملائمة لتدخل الفاعلين السياسيين في رفد مجهودات الدولة وتبحث
عن العمل المؤسساتي الناجع والشروط الموضوعية التي تسمح باتخاذ القرار
الصائب، ولذلك تطرح بالأسئلة التالية: من يقرر؟ وماذا يقرر؟ وفي ظل
لأية شروط يقرر؟ وبأية مفاعيل يتم إصدار قرار سياسي معين؟
من هذا المنطلق ترفض السياسة العمومية التعددية أن تكون القرارات
الموجهة نحو الصالح المشترك محتكرة وصادرة فقط عن الدولة وأن تكون هذه
الأخيرة هي في قمة الهرم الاجتماعي بل تنادي بالاعتراف بتعددية أجهزة
اتخاذ القرار وتدعو إلى تشريك مراكز الدراسات التي تمتلك رؤى
إستراتيجية. أما المنطق الذي يحرك هذه النظرية فهو منطق الأولويات
وبالتالي يرتبط مضمون القرار المتخذ بمعالجة إشكال طارئ بغية إيجاد
مخرج له في أسرع الأوقات وبأقل التكاليف. في حين ينبغي أن تتوفر
الاستقلالية التامة للقوى الفاعلية وفرصة المشاركة والتأثير بالنسبة
للجماعات الضاغطة حتى يتم اتخاذ القرارات في القاعدة ويصل إلى العلن
دون تسويف أو إفراغه من المحتوى.
بقيت المعايير التي يجب اعتمادها في اتخاذ القرارات وهي مرتبطة
أساسا بتوقع النتائج وقياس الرهانات المرتقبة وبالتالي يجب أن يصب
اتخاذ القرار في مستوى التوقيت والجهة المنفذة له والغرض المبرمج في
اتجاه استيفاء الرهان العمومي التعددي نفسه.
غاية المراد أن عقلنة الصراع والإدارة السلمية للاختلاف والتعدد هما
جوهر الممارسة السياسية المعاصرة ولا اختلاف بين الفلاسفة في أن
الإمكانية الوحيدة لنزع الفتائل العنفية للصراع ولتثميره في خط المصلحة
العامة تتمثل في إفراز الاختيارات الجماعية من إجرائية النقاش العمومي
والإرادة العامة، كما أن تصريف الصراعات تصريفا سلميا مثمرا يتوقف على
حسن التدبير في العلاقة بين الفضاء الخاص والفضاء العام ويتطلب الحسم
الشكلي الإجرائي الصرف لقضايا العيش المشترك.
فكيف لا يحكم أحد عندما يحكم الجميع؟ ومتى يستقل القرار السياسي عن
تقلب الأوضاع وجاذبية القوى ومقاومة الأشخاص واستثنائية الظروف ويضمن
للكيان السياسي استمراريته وفاعليته؟ وأليس المطلوب هو حياد الدولة
تجاه مفهوم الحقيقة واحترامها للثوابت الاختلافية المثرية للحياة
العمومية؟ وبالتالي متى تقدر ثقافة الديمقراطية التعددية العمومية أن
تغير من الطريقة التي ننظر بها إلى ذواتنا ونتعرف وفقها على أنفسنا
فنكف عن حب الذات المرضي ونعمل على تقديس الاثيار كمنزع تضحوي من أجل
الأخر؟
* كاتب فلسفي
.........................................
المراجع:
Michel FOUCAULT « Les mailles du pouvoir » in Dits
et Ecrits 1954-1988. Tome IV : 1980-1988, Paris, Gallimard, 1994.
P.Hall. The political Power of Economic Ideas,
Publisher: Princeton University Press (July 1,1989).
P. Muller, Y. Surel, l'analyse des politiques
publiques, Paris, Montchrestien, 1998 (coll. « Clef»).
Robert Dahl , Qui gouverne ? 1961,. Traduction
française., Paris, Armant . Colin, 1971. |