اختراع المثقف وامتداح الأمي

عبد الكريم العامري/ باحث اجتماعي

 

شبكة النبأ: قبل الولوج في موضوعة الثقافة والمثقف نتساءل أولاً من هو المثقف؟ هل هو الذي يقرأ؟، وإذا نظر إلى الأشياء حكمَ بعينه وبعيون ألف ممّن قرأ لهم في حاضر الزمان وغابره.

يقول الأميين في مجتمعنا عنه أنه (أبو الجرايد) أو يضربون المثل فيه (سهمك من العاقل الراحة). لكن من الذي اخترعَ المثقف؟

هل تصدّق أن الذي اخترع المثقف هو الأمي!. الشخص الأمي إذا ما تفحصته مليا، فانه يبدو شخص محترم. أنا شخصيا أحسده على ذاكرته، قدرته على التركيز، الحيلة، على موهبته في الاختراعات، عناده، حدة سمعه وبصره.. لا تظنوا إني أحلم لست أتحدث عن شبح رومانتيكي. بل عن أناس نلتقيهم باستمرار، لسنا بحاجة لتجميل صورهم. أنا أدرك ضيق رؤيتهم، جنونهم،  تصلب شرايين الفكر عندهم، محدودية سلوكهم. سيتساءل البعض لماذا أقف إلى جانبهم وهم لا يقرأون؟

أقول لأنهم هم الذين ابتكروا الأدب والأسطورة، ومن أشكالهم البسيطة صنعوا الحكاية حتى الأنشودة إلى المراثي، من التراتيل حتى الألغاز والأحجية.. وكل هذه أقدم من الكتابة ودون الأدب الشفوي. لم يكن ليظهر الشعر دون الأميين، لا توجد الكتب والكتاب.

إذن فالأمي هو الذي اخترع المثقف، المثقف بديل الأمي بامتياز حصري. لكن للأسف يَكتب المثقف دوما ما شاء من ألوان الكتابة وأجناس الأدب للفئة البشرية الأكثر نفاقا وفسادا أحيانا أو التي ترغب دائما أن تبقى تغالط وهي متعالية ولا يكتب المثقف للأمي!.

الرجل الأمي كاهن الثقافة. لذا فالمثقف ليس من فاز بنعمة العلم ونور العرفان، فوسوس له الشيطان فظن انه في وادي، طغى وبغى. ليس المثقف مَن صنع له نفساً غير نفسه ووجها غير وجهه وبدا للناس بوجهين يلعن احدهما الآخر. هو يعلم انهما ملعونان. قد لا يعلم، تلك علامة اختلال أو زوال؛ عندها تغادر أخلاقه نحو الرياء والكذب. ليس المثقف من يسمي عدم القدرة على اكتساب القدرة ثباتا على المبدأ.

المثقف من اقتحمَ لجة هذا البحر العميق خاض غمراته خوض الجَسور لا خوض الجبان الحذور. توغلَ في كل مظلمة، تهجمَ على كل مشكلة، اقتحم كل ورطة.. شعاره الثقافة للجميع معترفا معلنا ان لا نهاية للوصول، حارقا سفن العودة، مردداً:

كلما أدبني الدهر          أراني نقصَ عقلي

وإذا ما ازددت علماً      زادني علماً بجهلي

المثقف لا يعاني من داء المقاطعة. بل قد يموت بأسباب ثقافية، المأساة الإنسانية ان يموت أمي لكن يبقى بداخله إنسان حي مثقف! أتمنى أن يبقى بعد موته طرف دائم في مجلس الثورة الثقافية التي تعني بأدق معانيها تبدل في الفهم، هي الثورة التي تبسط أجنحتها على كل القارات.. والذهنيات.

من الممكن أن يكون الناس كلهم مثقفين أو جماعات صغيرة منهم خاصة ممن يتحلى بالموهبة الاستثنائية، الأحاسيس الأخلاقية، يقضون حياتهم لبناء ضمير الإنسانية المشروخ. هؤلاء يشكلون نخبة نادرة، ان ممتلكاتهم هي واقع الحياة وما ورائها. من أجل هذا فأنهم يرفضون الرغيف الساخن من الخبز، كذلك يرفضون الانتساب إلى عشيرة (الثقفي).  

قد يعد الموضوع وفكرته سباحة ضد التيار، سابقة ليس لها رواج. لكن أطفال البشر من خلال الملاحظة يولدون، يلتقون، يتفاعلون مع عوالمهم الطبيعية والاجتماعية بشكل كامل إلى حد كبير من خلال عدسات وسيطة هي الثقافة الموجودة بما تحتويه هذه الثقافة من مقاصد مبتكريها من السلف الأمي.

لكن تختلف آليتا التعلم والتنشئة في المجتمعات حسب طريقة التفاعل مع الظاهرة الثقافية.. حيث تعتمد مجتمعات الثقافات الشفاهية على التلقين أساسا وعلى التفسير من شخص كبير ناضج هو(الحِسچه) مستندين إلى المثل الشفاهي (المجالس مدارس).

غالبا ما يكون التفسير لغويا يعتمد على برهان لغوي (حَچي مصفَّط)، يكون للإطار أو للمنظور اللغوي المكانة العليا في المجتمع المحلي.  نظرا لاختلاف رصيد ونوع المعرفة باختلاف الثقافات التي تنتقل عبر المعارف، لذلك نجد انتقال المعارف والمهارات قد يكون عبر عمل وممارسة أو فعالية نشطة يؤديها الأطفال.

قد يكون الانتقال نظريا تلقينيا، كما هو الحال في المجتمعات التقليدية الشفاهية. يدعم هذا النهج التبعية التراتبية. لهذا ينشأ الأطفال في المجتمعات تلك ملزمين عمليا بمراقبة الكبار والتعلم منهم عن طريق ملاحظة أدائهم للممارسات، الشعائر، المهارات وانتظار المعلومة أو التعليمات منهم كمصدر للمعرفة ومرجع معتمد لأن (أكبر منك بيوم أكبر منك بسنة). لذلك نجد الأطفال المصابين بحالة الانطوائية الذاتية الذين يشبون وسط منتجات ثقافية تراكمية، عاجزون عن الإفادة بميزة الحكمة التنويرية، أو تقبّل التقلّبات المعرفية، حيث تعتبر عقولهم فطرية. تكتسب من الكبار تكوينات وطرز خاصة من الرموز اللسانية تختزل التجارب.

الغريب أن بعض الآراء ترى الرياضيات صورة مصغرة لمهارات فكرية تغير المنظور أحيانا يقال لها (حساب عرب)، انها مشتقة من عمليات المعرفة والخطاب الاجتماعيين.. لها القدرة على حل المشكلات..

لذلك كله وغيره، تراني أمجِّد الأمي الذي حفظ القرآن عن ظهر قلب، يصوغ الملحمة، ابتكرَ المسرح الحسيني، المثل الشعبي، القصيدة العامية، الأهزوجة الفلكلورية، وقبل ذلك رسام الكهوف، نحات المسلات، نقاش الكاشي والمرمر، شيخ العشيرة وابن الأجاويد حلال المشكلات...

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 16/أيار/2010 - 1/جمادى الآخرة/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م