مثل الكثير من شعوب المنطقة انقسم الشعب العراقي منذ ازل بعيد، الى
اغلبية بعيدة عن الاضواء واقلية قريبة من الاضواء، فالاولى لاتريد ان
يسمع بها احد، او ان يعرفها احد...يطلقون عليها هادئة.. او صامتة.. او
سموها ماشأتم؟؟
والثانية اقلية مهيمنة.. ثرثارة..منتشرة في كل مكان، وحاضرة في كل
زمان.. وهذا التصنيف اعتقد انه بدأ منذ ان قام ابو جعفر المنصور ببناء
بغداد في القرن السابع الميلادي، ومازال ساري المفعول.
تشكل الاكثرية السواد العام للشعب، وتحترف مختلف الاعمال والانشطة
المهنية.. اقتصادية، فنية، علمية.. وكل عمل يتطلب امتلاك مهارة.. وخبرة
يدوية، او عقلية، او انسانية، وربما شهادة اكاديمية، وتحتل المواقع
المؤثرة حسب تدرجها... واستحقاقها... وتنال المناصب القيادية برضا
الناس.. وقبولهم...
وكذلك تضم هذه الفئة من لاعمل له مع امتلاكه المؤهل.. او الرغبة
بالعمل، وكل من ينفذ واجبه، وكل من يعرف حدود امكانياته، اي انها تضم
فئات مختلفة، من العاطل عن العمل الى اعلى منصب سيادي بشرط ان يعمل وفق
مبدأ الصمت (اعمل بصمت ودع عملك يتكلم).
وفي الوقت الذي يهيمن الشعار الصامت على عمل الاغلبية.. تحترف
الاقلية اي الفئة الثانية الكلام..فنونه وصياغاته القائمة على التطبيل،
والتهليل، والتهريج.... وتفاهاته التي تشمل التملق، والتصنع....و
دعارته القائمة على افشاء الاسرار، وابتزاز الحلفاء، او اطلاق
التهديدات، او قلب الحقائق، وخلط الاوراق، او الوشاية بالرفقاء.
وهذه الوظائف في مجملها ثرثرة مزعجة، ومؤذية، ولاعلاقة لها بالنظام
السابق، او الجديد، او القادم، او الماضي، ولابحب الوطن او صناعة مجده،
او بناء الدولة حسب ادعاء تجار الكلام، بل وفق الشعار الازلي الخالد (رزق
البزازين على المعثرات).
والشعب العراقي يعرف ثرثاريه جيدا حين لمع نجمهم خلال سنوات الحرب
الثمانية، وخلال ايام الحصار.. وفي التحرير.. والاحتلال...وسنوات
الارهاب، والحرية، والخوف، والكذب والديموقراطية..
ففي الثمانينات كان الوطن في مفهوم الاكثرية الصامتة هو اداء
للواجبات التي لها بداية وليس لها نهاية، والوطنية الحقة في نظرهم هي
نسيان الحقوق خدمة لمستقبل البلاد، وفي التسعينات صار ربط الاحزمة على
البطون خدمة عظيمة لمصلحة الدولة..وموت الاطفال في الخدج خدمة اعلامية
وطنية لكسر الحصار...
تنقل المواطن العراقي خلال تلك السنوات وما قبلها.. من خدمة عسكرية
مذلة من 24 شهرا الى ان يأذن القائد ؟؟؟ الى تقديم التبرعات والضرائب
المجحفة.. والتوجه الى جبهات القتال لالتحاف رمال الغبراء، والصمت على
اي بلاء سياسي، سواء كان حربا داعرة يسميها الثرثارون شريفة، او ثورة
فاجرة يلقبونها بالعروس، او انقلاب اسود يطلقون عليه ابيض، ففي النهاية
تصمت الاغلبية وتتحول ثرثرة الثرثارون الى نظام سياسي.. وحقيقة قائمة.
واليوم فالوطن في نظر الاغلبية حلم لابد ان يتحقق، والحقوق لاتقتصر
على مشاركة في الانتخابات سرعان ماتميعها الارادات الاخرى، كما ان
الحرية لاتعني مساحة اكبر للثرثارين مع عدم اكتراث بحكمة الهادئين،
والسياسة ليست مجرد شضايا انفجار في الطريق، او رصاصة طائشة من مسلح
متهور، او كلام يساق بتعصب اهوج من اجل منفعة شخصية، وفي النهاية يختصر
المشهد (محلل سياسي) لايرى الا بعين واحدة وهو يطل من فضائية عربية
(عوراء) تتفنن في الثرثرة.
ولغاية كتابة هذه السطور مازالت الاغلبية تضحي دون ان تطالب بالثمن،
في حين تصر الاقلية على المطالبة والمطالبة بالمزيد، لان الوطن في
مفهومها مشروع مربح، فأذا كانت الاكثرية تحمل البوصلة عندما تنتقل من
مكان الى آخر للاستدلال الى اتجاه القبلة، فأن للثرثارين بوصلة من نوع
آخر لاعلاقة لها بالعبادة، انما هي بوصلة تنشط عند التغيرات في اتجاهات
السياسة.. لتتحسس مكامن مصائب الاخرين كي تقلبها الى منافع لها.
فأذا كانت الدولة في مفهوم الاكثرية قوانين ونظم وتعليمات، فأنها في
مفهوم الاقلية اشخاص يطبقون القوانين والنظم والتعليمات، وعندما تحرص
الاكثرية على الالتزام بهذه النظم، والقوانين، تحرص الاقلية على
الايقاع بمن يحركون القوانين وكسب ولائهم بالرشوة او المنفعة
المتبادلة.
وغالبا ما تقوم الاغلبية بقلب الطاولة عندما يتحول الثرثارون الى
مرشدين لقائد ضعيف، او حاشية لقائد متجبر، لكنهم اي الثرثارون لايفكرون
بالدولة.. انما بمنافعها.. ويفضلون السياسة على القيادة، لذا تراهم
يسقطون قائدا.. ويعظمون آخر.. وفق حسابات مصلحية دقيقة.. يربطونها بقيم
ذات شعبية واسعة ولايهم ان كانت دينية، او وطنية، او قومية او طائفية
او اجتماعية، وحسب حاجة الجمهور.
ونستخلص من ذلك ان الثرثارين موجودون بيننا ولكن كيف علينا ان
نكتشفهم، وكيف نتخلص منهم لاسيما اذا تحول هذر الكلام الى ثرثرة مفخخة. |