بعد عشرين عاما من ترك الفلسطينيين وحدهم على طاولة المفاوضات مع
الإسرائيليين حيث قَبِل العرب في مؤتمر مدريد 1991 بنهج تعدد المسارات،
يعود الدور العربي الرسمي ليتدخل في الشأن السياسي الفلسطيني مباشرة من
خلال التدخل في عملية المفاوضات. فما الذي غير المواقف وجعل العرب
يغيرون موقفهم ويصيغوا مبادرة جماعية للسلام عام 2002 ثم يمنحوا مؤخرا
الإذن للقيادة الفلسطينية بالعودة لطاولة المفاوضات من خلال بيان لجنة
المتابعة العربية؟. هل هو مظهر قوة في الموقف العربي أم مظهر ضعف؟ وهل
هو عود أحمد لصالح الفلسطينيين؟أم عود تلبية لمطلب خارجي للضغط على
الفلسطينيين؟.
مما يلفت الانتباه أن التدخل العربي الجماعي في الشأن الفلسطيني وفي
عملية التسوية لم يكن تلبية لواجب قومي تجاه الفلسطينيين بل انصياعا
لطلب امريكي وفي محطات سياسية تكون واشنطن بحاجة لتهدئة الاوضاع بين
الفلسطينيين والإسرائيليين من خلال خلق أوهام سلام حتى تتفرغ لقضايا
أخرى أكثر اهمية لها من وجهة نظرها. حدث هذا عام 1991 – مؤتمر مدريد-
خلال حرب الخليج الثانية وحاجة واشنطن للحفاظ على تحالف دولي قوي
لمواجهة العراق، وعام 2002 – المبادرة العربية للسلام -حيث كانت واشنطن
في خضم معركتها ضد الإرهاب بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001 وتحتاج لتحالف
دولي وعربي لمواجهته ومواجهة مستجدات الوضع في العراق، و أخيرا عام
2010 حيث تعثرت مسيرة التسوية بشكل غير مسبوق وفي نفس الوقت تتفاقم
مشاكل واشنطن في العراق وأفغانستان وإيران.
الخطورة في التدخل العربي الرسمي الراهن انه يأتي في ظل ضعف غير
مسبوق للانظمة، ضعف ناتج عن انكشاف شرعية هذه الأنظمة وخشيتها من فقدان
السلطة، و ناتج عن أزمات اقتصادية فاقمت من إفقار القطاعات الشعبية
وزادت الفجوة بين الفقراء والأغنياء وبالتالي خلقت حالة من عدم
الاستقرار الداخلي. وبدلا من ان تبحث الأنظمة عن مخارج داخلية للأزمة
من خلال الحلول الديمقراطية، فإنها توجهت بأنظارها نحو واشنطن كمنقذ
لها، أو استغلت واشنطن هذه الأوضاع لتعرض عليها المساعدة المشروطة،
وبالتالي أصبحت غالبية الأنظمة العربية والنخب المستفيدة لا تستطيع
مخالفة مطالب واشنطن وأوامرها سواء فيما يتعلق بـ (محاربة الأرهاب ) أو
في التعامل مع ملفات العراق وإيران وافغانستان أو في البحث عن تسوية
لمشكلة الشرق الأوسط، وبالتالي فعودة الدور العربي يأتي ضمن هذا السياق
وهنا تكمن الخطورة.
ففي مشهد رسمي عربي عام قلت فيه مواقف العز والكرامة، كان مشهد
الامين العام لجامعة الدول العربية وهو يعلن موافقة الجامعة العربية
على بدء مفاوضات غير مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين بدون شروط
او ضمانات حقيقية للفلسطينيين، كان مشهدا لا يخلو من هوان ومذلة. قرار
لجنة المتابعة يعني ببساطة الخضوع للمطلب الأمريكي بالعودة للمفاوضات
بدون شروط، فطلب الموافقة العربية وإن بدا وكأنه جاء من القيادة
الفلسطينية إلا أن الدول العربية تعلم أنه طلبٌ بل أمرٌ امريكي لا
يستطيعون مخالفته، أيضا القرار الرسمي العربي بالموافقة على العودة
للمفاوضات يعني بدون مواربة بأنه ليس لدى الأنظمة العربية ما تقدمه
للشعب الفلسطيني، ولجنة المتابعة العربية بقرارها هذا تبدد أوهام
الشعارات الكبيرة التي أطلقتها دول ونخب سياسية كالتهديد بسحب المبادرة
العربية للسلام أو القول بمعسكر الممانعة والمقاومة، فلو كان هناك
بالفعل دول مقاومة وممانعة عربية لرفضت هذا الطلب الأمريكي وبالتالي ما
كان قرار الموافقة على العودة للمفاوضات صدر على لسان الأمين العام
لجامعة الدول العربية.
بعد ثلاث و ستين عاما على النكبة وخمس واربعين عاما على ظهور كيانية
سياسية فلسطينية، يعود (البعد القومي) للقضية الفلسطينية بشكل مشوه هو
أقرب لوصاية رسمية عربية جديدة على حالة وطنية مأزومة، وتعود القضية
الفلسطينية لحالة أكثر سوءا مما كانت قبيل حرب 1948. ففيما يستكمل
نتنياهو بناء المشروع الصهيوني الذي بدأ فكرة في مؤتمر بازل عام 1897
ثم واقعا عام 1948 ليخطو خطوة للامام مع خطة شارون بالانسحاب من غزة
2005...، تستكمل زعامات عربية نهجها المدمر للقضية و للمشروع الوطني
الفلسطيني، وهو النهج الذي بدأ مع وثيقة فيصل –وايزمان بداية القرن
العشرين مرورا بالتدخل العربي لإجهاض ثورة عام 1936 الفلسطينية ثم تدخل
الجيوش العربية عام 1948 تحت عنوان منع التقسيم فيما كان هدفها منع
قيام دولة فلسطينية مستقلة والسيطرة على الأراضي المخصصة للفلسطينيين
حسب قرار التقسيم، وأخيرا رعاية بعض الأطراف العربية لمخطط تدمير
المشروع الوطني الفلسطيني وذلك من خلال تنفيذ توجه أمريكي لمواجهة ما
يسمى التطرف الإسلامي، حيث رعت أنظمة عربية – خصوصا قطر - عملية تدجين
حركة حماس وتشجيع فصل غزة عن الضفة وتعزيز الحالة الانفصالية في غزة
وإعاقة إنجاز المصالحة الفلسطينية.
ليس مرامنا إسقاط المسؤولية عن القيادات والنخب الفلسطينية فيما
يجري من تأزم للنظام السياسي الفلسطيني بشقيه المفاوض والمقاوم، ولكن
ما يستفزنا هو استمرار أنظمة وحركات سياسية عربية وإسلامية في نفس نهج
استمر منذ بداية القضية حتى اليوم وهو نهج توظيف معاناة الشعب
الفلسطيني لخدمة أجندتها الخاصة بما لا يخدم مصلحة الشعب الفلسطيني.
فلا يوجد شعب من الشعوب العربية تم التدخل في حياته السياسية والمعيشية
كما يجري مع الشعب الفلسطيني، فالقضية الفلسطينية منذ تأسيسها تحولت
لفضاء مشاع لكل من هب ودب من رجال السياسة وتجار السياسة والمنظرين
والمحللين السياسيين حتى بات أصحابها الأصليين مجرد مراقبين لما يجري.
في كل لحظة تأمُّل فيما يجري اليوم على الساحة الفلسطينية والعربية
من صراعات حزبية وتوظيف النخب السياسية العربية والإسلامية والفلسطينية
للقضية الفلسطينية لخدمة مصالحها واجندتها الخاصة، وما يُرفع من شعارات
كبيرة لا يصاحبها ممارسات عملية على أرض الواقع، إلا واستحضرنا ما
قرأناه عن واقع الحركة الوطنية الفلسطينية قبل 1948، حيث شهدت فلسطين
صراعات وخلافات حزبية وعائلية حول الزعامة والقيادة أدت في النهاية
للاستنجاد بانظمة عربية أسستها بريطانيا وفرنسا واحيانا الاستنجاد
ببريطانيا نفسها –كما يجري اليوم من استنجاد بواشنطن-، الأمر الذي ادى
في النهاية لإجهاض ثورة 1936 وتمكين الحركة الصهيونية والانتداب من
استكمال المشروع الصهيوني الاستيطاني ومن ثم حدوث النكبة.
كما نستحضر ما عايشناه من جدل وصراع فكري وسياسي خلال حقبة
الستينيات والسبعينيات حول علاقة القوى القومية العربية بالوطنية
الفلسطينية المتجسدة آنذاك بحركة فتح ومنظمة التحرير، الأمر الذي ادى
لاستنزاف الثورة الفلسطينية في حروب وصراعات مع اكثر من نظام عربي حيث
دخلت الثورة في مواجهات مع الاردن ومع سوريا ومع العراق ومع ليبيا الخ،
فلا المشروع القومي العربي الوحدوي تحقق ولا الثورة الفلسطينية تُركت
لتكون صاحبة القرار في الشان الفلسطيني، وكما نعيش اليوم انقساما ما
بين دول (الممانعة) ودول (الاعتدال) حول مَن يقود المنطقة يدفع
الفلسطينيون ثمنه، فقد عشنا نفس الانقسام سابقا بين الأنظمة (التقدمية
)بقيادة مصر الناصرية والأنظمة (الرجعية واليمينية) بقيادة السعودية
الأمر الذي ادى إلى هزيمة 1967 حيث ضاعت بقية فلسطين وأراض عربية أخرى،
ثم ضاعت ثمار تضحيات قدمها الجندي العربي في مصر وسوريا وغيرهم في حرب
أكتوبر 1973 لينقلب ما سُمي بنصر اكتوبر/تشرين لهزيمة سياسية مزقت
الامة العربية وأضعفت العرب في مواجهة إسرائيل، وفي جميع الحالات كانت
جامعة الدول العربية شاهد زور على ما يجري، بل هي اليوم تمارس دورا
اكثر خطورة حيث تضفي بعدا قوميا مزيفا على سياسات رسمية عربية تتناقض:
وجودا وممارسة، مع مصلحة الامة العربية.
إن كان ما يجري اليوم وما جرى أمس يؤكد التداخل ما بين القضية
الفلسطينية والحالة العربية الرسمية والشعبية فإنه يؤكد أيضا أن الحالة
العربية الرسمية أصبحت عبء على القضية الفلسطينية، فالحالة العربية،
إما رسمية متواطئة مع العدو، أو شعبية عاجزة ولسان حالها يقول (العين
بصيرة واليد قصيرة)، وليست الحالة الإسلامية بالافضل حيث توظف جماعات
الإسلام السياسي المتشرذم والمتصارع حتى مع نفسه، القضية الفلسطينية
ومعاناة الشعب الفلسطيني لخدمة مشروعها السياسي في صراعها مع نظام
الحكم ومنافسيهم السياسيين في كل دولة يتواجدون بها.
ولأن الطرف الفلسطيني هو الأضعف ضمن شبكة المصالح والايديولوجيات
وموازين القوى العربية، فإن أنظمة عربية وقوى سياسية تتعيش من وراء
توظيف معاناة الشعب الفلسطيني في شعاراتها وخطابها السياسي، تخفي عجزها
وتواطؤها برمي الكرة بالملعب الفلسطيني من خلال القول بان الفلسطينيين
يتحملون المسؤولية بسبب انقسامهم.
ليست هذه دعوة لفك الترابط بين فلسطين ومحيطها العربي والإسلامي،
فهذان البعدان مكون رئيس للقضية الفلسطينية، فقضية فلسطين قضية وطنية
وعربية وإسلامية وإنسانية ولن تنجح المقاومة فلسطينيا بدون وجود حالة
عربية شعبية ورسمية تتبنى خيار المقاومة فعلا ومستعدة لدفع
استحقاقاتها، ولن ينجح مشروع سلام ولا مفاوضات بدون حالة عربية إسلامية
مستعدة لخوض معركة السلام. كما أنها ليست دعوة للدول العربية بالتراجع
عن خيار السلام فنحن ندرك أنها لا تملك البديل وحتى خيارها للسلام غير
قادرة على فرضه، وكل ما نأمله من الدول العربية أن لا تعزز حالة
الانقسام الفلسطيني وان تتوقف عن ستر عوراتها السياسية بورقة توت الدم
الفلسطيني والمعاناة الفلسطينية، إن أهم عمل قومي يمكن للعرب تقديمه
للفلسطينين الآن هو إنجاز المصالحة الوطنية الفلسطينية وذلك من خلال
مساعدتهم على إعادة بناء نظامهم السياسي – منظمة التحرير – على أسس
جديدة تستجيب مع الواقع الفلسطيني والإقليمي والدولي الجديد.
Ibrahem_ibrach@hotmail. com |