عندما تريد المراكز التعليمية توضيح حقيقة علمية للطلاب، تجد من
الضروري وضع مثال أو عيّنة داخل المختبر ليدركوها بكامل حواسهم ثم
يدرجوها ضمن حقائق الحياة ويمهدون لها السبيل للتطبيق العملي. وبغير
ذلك تبقى مجرد نظريات علمية متناثرة على صفحات الكتب لا فائدة منها.
هذا ما يتعلق بالعلوم الطبيعية، ونفس القاعدة تنطبق على العلوم
الانسانية والدينية أيضاً، فعندما نريد نظرية اجتماعية ناجحة لأسرة
سعيدة، لابد ان يكون أمامنا نموذج عملي حيّ، وليس مجرد نظريات
وافتراضات يطرحها علماء الاجتماع، كما حصل اللغط واللبس في بعض
النظريات الاجتماعية التي انتشرت في مجتمع لا علاقة له بتلك النظريات
والسبب أنها قادمة من مجتمع يبعد عنه بآلاف الكيلومترات مساحةً، وبعيد
عنه حضارياً وثقافياً!
والحقيقة إنّا نعد محظوظين جداً لوجود نموذج متكامل ونابض بالحياة،
بامكان أي أسرة مسلمة أن تقتدي بها لتجد نفسها قد ابتعدت مسافات عن
الازمات والمنغّصات وحتى مخاطر التمزق والانهيار. إنه بيت الصديقة
فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، فقد اجتمعت فيه شروط التماسك وأجواء
الدفء والمحبة وتحكيم القيم الاخلاقية السامية.
ففي رواية عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) جاءت في مصادر
العامة، إنه عندما نزلت هذه الآية الكريمة: "في بيوتٍ أذن الله أن ترفع
ويُذكر فيها إسمه"، قام رجل وقال: أيّ بيوت هذه فقال النبي: (صلى الله
عليه وآله): إنها بيوت الأنبياء، فقام رجلٌ آخر وأشار إلى بيت علي
وفاطمة (صلوات الله عليهما) وقال: أهذه منها ؟ قال النبي: (صلى الله
عليه وآله): نعم؛ ومن أفضلها.
الفقيه الراحل آية الله السيد محمد رضا الشيرازي (أعلى الله درجاته)
يعلّق على هذا الحديث ويسلّط الضوء على (من) الواردة في حديث الرسول
الأكرم (ومن أفضلها)، يقول: هنا ثمة (من) التبعيض، ولعل إجابة النبي (صلى
الله عليه وآله) كانت على قدر مستوى ادراك السائل، ولعلها (محيّثة)،
وإلا من بعض الحيثيات فان بيت علي وفاطمة (صلوات الله عليهما) هي أفضل
البيوت، لأنه البيت الوحيد في العالم الذي ضمّ معصومين، ولذلك يمكن
القول إن من هذه الحيثية فان بيت علي وفاطمة (صلوات الله عليهما) هو
أفضل البيوت على الإطلاق.
طبعاً هذا لا يماري فيه أحد، وفقيدنا الراحل لم يتوقف عند هذا الحد،
فهو (رحمه الله) يحدد لنا معالم البيت الذي جاء وصفه في القرآن الكريم
بانه (الرفيع)، من أبرز هذه المعالم:
أولاً: بيتٌ لا توقعات فيه.
يقول سماحة الفقيه الفقيد (قدس سره): إن السعادة تكمن في البيت
والمجتمع والنفس التي لا توقع فيها، أي ألا تكون هنالك طلبات متوالية
وزائدة عن الحد اللازم، لأن هكذا طلبات تُعد أحد مناشئ حدوث المشاكل
العائلية، ومنها مشكلة الطلاق والتي تشهد نسبتها في المجتمعات
الاسلامية ارتفاعاً فضيعاً، ويضيف الفقيه المقدس: فيما يتعلق بعلاقة
الرجل مع المرأة، يجب أن نعرف أن الرجل يمثل منظومة فكرية، والمرأة
تمثل منظومة فكرية أخرى، لذا تختلف المنظومات الفكرية عن بعضها البعض،
لكن نجد ان الرجل يتوقع من المرأة أن تكون رجلاً! فيما المرأة تتوقع من
الرجل أن يكون امرأةً! فلا المرأة بإمكانها أن تكون رجلاً، ولا الرجل
بإمكانه أن يكون امرأةً، لان ثمة إختلاف في المنظومة الفكرية والتركيبة
النفسية والحالة البدنية، وباختلاف هذه المنظومات تبدأ التوقعات،
فالمرأة لا تلبي توقعات الرجل كما يفكّر، فيما الرجل لا يلبي توقعات
المرأة كما تفكر، فتبدأ المشاكل.
من هنا نعرف مدى أهمية القناعة ودورها في الحفاظ على سلامة واستقرار
الأسرة، بل يمكن أن نلمس مصداقية الحديث الشريف (القناعة كنزٌ لا يفنى)،
فهي ثروة وغنى، لكن ليس من سنخ الثروة المادية الفانية، بل الباقية في
حياة الانسان كما تبقى في عقبه.
إن بيت علي وفاطمة (صلوات الله عليهما)، لا توقعات فيه، وهنالك
رواية تجسد لنا معنى عدم التوقع وصرف النظر عن الطلبات الزائدة عن
اللازم.
دخل أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ذات يوم إلى بيته وطلب طعاماً
فقالت الصديقة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها): والذي عظّم حقك، لا
يوجد في بيتنا طعام منذ ثلاثة أيام! فقال لها أمير المؤمنين: ولِمَ لم
تخبريني بذلك ؟ فقالت: إن أبي نهاني أن أسألك شيئاً، وقال لي: إن جاء
بشيءٍ فبها، وإلا فلا تسأليه شيئاً.
ثانياً : بيتٌ لا توتر فيه.
مهما كانت الاسباب والخلفيات، يبقى التوتر والتشنّج سبباً أساس في
غياب التفاهم بين أفراد الأسرة، وبالأخص بين الزوج و زوجته، وهذه
الحالة المرضية لا تظهر وتستفحل إلا في كيان الأسرة الفاقد لجهاز
المناعة ألا وهو الاخلاق، فالرجل يتهجّم على المرأة، والمرأة تفعل ذلك
بالمقابل، أو الرجل يهجر المرأة، كما تهجر المرأة الرجل، عندها نبتعد
مسافات عن مصداق الآية الكريمة "وخلقنا منها زوجها ليسكن اليها"،
فالسكون يرحل من هكذا بيت ويحلّ محله الضجيج والصراخ والحرب الكلامية،
وربما في بعض الاحيان يتطور الأمر الى الضرب والاعتداء.
إننا نسمع عن حالات الضرب والاعتداء وحتى التآمر للقتل في مجتمعات
غربية تحمل إسم الحضارة عالياً، لكن ليس من الطبيعي أن نسمع هكذا ظواهر
في مجتمعاتنا الاسلامية التي تحمل بين أيديها القرآن الكريم وتراث أهل
البيت (صلوات الله عليهم)، لذا في الحقيقة، وجود أجواء احتقان وتوتر في
أسرنا وعوائلنا تُعد مخالفة كبيرة وصريحة للدستور الاسلامي.
من هنا يعبّر الفقيه المقدس الشيرازي عن البيت الذي يطمح اليه
الاسلام، بانه (واحة خضراء)، ويقول: إن الإنسان في هذه الحياة كمن هو
في صحراء قاحلة، يطوي المسافات ويذوق الحر والبرد والشمس والغُبار الذي
يدخل عينيه وأنفه وأذنيه، فيحتاج بعد ذلك الى واحة فيها عين ماء عذبة
ليغسل وجهه ويرتاح تحت ظلال شجرة و ينام على أرض لطيفة.
إنه مثالٌ لطيف وجميل حقاً عن حال الرجل أو المرأة في البيت،
فكلاهما يتوقعان من الآخر أن يكون واحة خضراء يلقي عنده كل ما أجهده
خلال اليوم.
يقول الامام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) عن الصديقة الطاهرة: (فو
الله ما أغضبتها وما أغضبتني)، فلا مرة واحدة حصل أن أغضب الامام علي
فاطمة، ولا فاطمة أغضبت علياً (صلوات الله عليهما)، ويذكرنا فقيدنا
بالتجارب الناجحة للآباء والأجداد في هذا المجال ويقول: كان آباؤنا
يمضون في طريق تحقيق هذا النموذج، حيث كانوا يعيشون سبعين أو ثمانين
عاماً حياةً هادئة وطيبة، وجاء في وصية الصديقة فاطمة الزهراء (صلوات
الله عليها): (ولا خالفتك منذ عاشرتك)، وهذا يُعد درس نتعلمه في حياتنا،
فقال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): معاذ الله أنتِ أبر، وبعض
الخطباء الكرام يقرأون هذه الجملة: (أنت أبر وأتقى...).
ثالثاً: بيتٌ لا تعقيد فيه.
وهذا المعلم الذي قلما نجده في بيوتنا بسبب ما جنت علينا الحضارة
المادية الصاخبة التي تحسب لكل شيء ألف حساب، فلا مغفرة وسماح لخطأ أو
زلل ولا تبسيط في الأمور مهما كانت عادية وعابرة، والنتيجة اليوم نجد
انتشار النفوس المعقدة التي تؤدي دائماً الى دمار حياتنا ومجتمعاتنا
ودولنا ودنيانا وآخرتنا، بينما يأمرنا الاسلام بالبساطة وعدم التكلّف
في جميع نواحي الحياة، سواءً في المأكل أو الملبس أو المسكن، وهذا ما
كان عليه بيت فاطمة (سلام الله عليها).
من الالتفاتات المهمة لسماحة الفقيه الشيرازي فيما يتعلق بمنهج أهل
البيت (عليهم السلام) في الحياة، إنه يؤكد بان أمير المؤمنين (عليه
السلام) لم يكن انساناً فقيراً قط، لكنه كان يجاري الفقراء في كل
تفاصيل حياته، وهذا ما جعله (عليه السلام) يتخذ شكل وشخصية الانسان
الفقير لدى كلّ من يتصفح التاريخ ويطالع سيرته العطرة.
يقول (أعلى الله درجاته): إن أمير المؤمنين لم يكن يمتلك بيتاً
عندما تزوج بالزهراء (سلام الله عليها)، وكان هناك شخص يُقال له
(الحارثة)، أعطى بيت لأمير المؤمنين، ثم بعد فترة من الزمن بنى الإمام
له بيتاً، أما عن مهر الزواج، فهناك رواية تقول أربعمئة درهم، فيما
تقول رواية أخرى – يقول الفقيه الشيرازي- إنه أربعمئة وثمانين درهم، و
رواية تقول خمسمئة درهم، وكان الوالد – المرجع الراحل السيد محمد
الحسيني الشيرازي (قدس سره) ينقل رواية تقول ان المهر كان ثلاثون
درهماً فقط ! وجاء في الروايات أن المهر قُسّم ثلاثة أقسام: ثلثٌ
للأثاث وثلثٌ للطيب، وكما استظهر من بعض الروايات فان الثلث الاخير
للوليمة، وكان فراشهم إهابة كبش، أي جلد خروف، ينامان عليه وأظن في
رواية جاء انه في النهار كان يعلفون الناضح – وسيلة لشرب الماء- من
ذاك الجانب، وفي الليل كانوا ينامون على الجانب الآخر، وفي ليلة زفافها
(صلوات الله عليها) كان لها قميص واحد فقط، كما يبدو من الروايات، ولذا
عندما أعطت هذا القميص للسائل، لم يبق لها قميص آخر جديد، فلبست (صلوات
الله عليها) القميص المرقوع!، وعن الأثاث فيمكننا مراجعة ذلك من كتب
التاريخ.
يؤكد الفقيد الشيرازي على إمكانية الاقتداء بالزهراء (سلام الله
عليها)، ولو بجوانب من حياتها، لنرَ آنذاك كيف تكون أحوالنا وأوضاعنا
الاجتماعية والنفسية في محيط الأسرة، والحقيقة نقول: هناك نوع من
الجفاء غير المعلن مع الصديقة الطاهرة (سلام الله عليها) بالرغم من
الإدعاء الكبير والواسع باتباعها وموالاتها خلال إقامة المجالس
والمآتم، لكن لنتسائل بصراحة: ألا نبحث عن الكرم عند حاتم الطائي
والعدل عند كسرى والشجاعة عند علي بن أبي طالب والصفات والمواهب الأخرى
عند أسماء متعددة في التاريخ؟ اذا كان كذلك وهو حسن من باب الاقتداء
بهم، فلماذا لا نتخذ من الزهراء (سلام الله عليها) نموذجاً ومثالاً
للبيت السعيد؟
* مؤسسة الفقيه الشيرازي الثقافية
http:// mr-alshirazi.com |