لا تختلف الديمقراطية كثيرا من حيث الآلية من بلد إلى آخر، فالمفهوم
العام لها قائم على النظام الإنتخابي النيابي والتعددية الحزبية
والسياسية، ولذلك إذا تشاكلت الأساليب والإجراءات من حيث الترشيح
والانتخاب وتشكيل الحكومة هنا وهناك فلا يعني ذلك أن أحدهما قلد الآخر
تقليدا أعمى، وإنما يأخذ هذا النظام السياسي من ذاك، فالمسألة محصورة
في الإطار التنظيمي، وهذه مسألة عقلائية تسالم عليها البشر، من حيث أن
تنظيم شؤون الأمة وإدارة البلد لا علاقة مباشرة بالمعتقد الديني أو
السياسي.
بل إن الأخذ من الآخر بما يساعد على تنظيم الأمور هو من باب خير
الناس من جمع عقول الناس إلى عقله، وهو من باب النظر في تجارب الأمم
الذي يحث عليه الشرع والعقل، من هنا فإن الساسة في العراق ينبغي عليهم
وهم يختلفون على تشكيل الحكومة القادمة بعد انتخابات 7/3/2010م أن
ينظروا إلى التجربة الإنتخابية الأخيرة التي جرت في بريطانيا في
6/5/2010، فهناك أوجه شبه كثيرة بين العمليتين الإنتخابيتين، إذ القاسم
المشترك بينهما أن مجلس الشورى أو البرلمان أصبح بالمفهوم البريطاني
برلمانا معلقا حيث لم يتمكن أي من الأحزاب الثلاثة الرئيسة من استحصال
الأكثرية النيابية (النصف+1) التي تؤهله لتشكيل الحكومة.
ولعل من أهم التجارب المستخلصة من الإنتخابات البريطانية ما يتعلق
بأهلية تشكيل الحكومة الجديدة، فحزب العمال الحاكم في بريطانيا ورغم
عدم تحقيقه النصاب القانوني الذي يسمح له تشكيل الحكومة القادمة (325+
1)، فان القانون أعطى له الأولوية لتشكيل الحكومة رغم أنه جاء ثانيا من
حيث عدد المقاعد (258 مقعدا) بعد حزب المحافظين (306 مقاعد).
وهذه تجربة مفيدة تقطع أي لغط في التجربة العراقية ولا تضع العصي
في دواليب العملية السياسية، فالحزب أو الإئتلاف الحاكم بزعامة المالكي
مع عدم تحقيقه الأكثرية البسيطة، له الأسبقية في تشكيل الحكومة.
ومن التجارب أن جرى كلام عن وضع الحكومة الحالية في العراق
ومستقبلها، فبعضهم يصفها بأنها حكومة تصريف أعمال وآخر بأنها حكومة
منتهية صلاحيتها، وهكذا، ولكن نظرة إلى الوضع المشابه في بريطانيا، فان
مثل هذا الكلام يصبح بلا معنى، فالحكومة البريطانية ينظر إليها بأنها
حكومة فاعلة وتنتهي صلاحيتها بتشكيل الحكومة القادمة، فالمشرع
البريطاني قطع أمره في مثل هذه المسألة، فحكومة زعيم حزب العمال جولدن
براون ليست حكومة منتهية الصلاحية ولا هي حكومة تصريف أعمال، بل هي
حكومة تملك كامل الأهلية والصلاحية.
وهذا درس في النظام الديمقراطي ينبغي أن يكون نصب العين، فالمسألة
لا تخلو أن تكون مسألة فنية نظامية وليس فيها جنبة عقيدية حتى يقال لكل
بلد ظرفه، فليس من العيب التعلم من الآخر الديمقراطي بما يريح البلاد
والعباد، ولكن العيب الإصرار على مقولات تضع البلاد على حافة الخطر!
ومن الأمور المسلّم بها في الديمقراطيات المتحضرة أن زعيم الحزب أو
الكتلة أو الائتلاف هو في الوقت نفسه رئيس وزراء مفترض، فليس من
العقلانية أن يتصدر الزعيم الانتخابات ثم يطلب منه بعد ذلك أن يذهب إلى
حال سبيله ويترك الأمر لغيره أو يصار إلى تشكيل لجنة لاختيار رئيس
وزراء! فهذا من الجهل بأبجدية الديمقراطية والعملية الإنتخابية أو
محاولة من البعض تجهيل الأمة وإغرائها بالجهل مع سبق الإصرار.
فالدكتور أياد علاوي زعيم القائمة العراقية هو رئيس وزراء مفترض،
وزعيم قائمة وحدة العراق السيد جواد البولاني هو رئيس وزراء مفترض،
وكذلك الزعماء في القوائم الأخر قلّ عدد مقاعدها أو كثر، فهم رؤساء
حكومات مفترضة، أما السيد نوري المالكي فهو رئيس وزراء فعلي وينبغي أن
تكون له الأسبقية في تشكيل الحكومة دون الحاجة إلى إدخال العملية
السياسية في متاهات والضحك على الذقون ببعض الممارسات التي لا تنم إلا
عن إصرار من البعض في إدخال البلاد في دوامة سياسية، فهذا البعض لا
يستطيع أن يعيش إلا على صفيح من الفوضى، من حيث أن إعمال القانون هو
جزء أساس من النظام واستتباب الأمن، فالبعض يعمل بشعار (القوة في
اللانظام) لعدم قدرته على الانسجام مع شروط العملية الإنتخابية في
تقبل الآخر واحترام المواثيق وما أبرمته الحكومات المتعاقبة وبخاصة
حكومة المالكي المنتخبة من معاهدات دولية.
ومن معالم العملية الانتخابية البريطانية، أنه ورغم أن حزب
المحافظين في بريطانيا حقق نتائج أعلى من غريمه حزب العمال، فان
الإعلام الرسمي لا يتعامل مع نتائج الانتخابات على أساس الربح
والخسارة، فلا يقال لحزب العمال خاسراً ولا يقال لنظيره المحافظين
فائزاً، لان الخسارة والفوز في المفهوم الديمقراطي يثبت عندما يحقق
الحزب أو الائتلاف النصاب القانوني الذي يتيح له تشكيل حكومة، وحيث لم
يحقق أي من الأحزاب الثلاثة الرئيسة الأكثرية البسيطة، فان الواقع
البريطاني يتعامل مع النتائج على أساس "البرلمان المعلق" فلا فائز ولا
خاسر، لأن حزب العمال الذي فقد الكثير من مقاعده أعطى له نظام
الديمقراطية الأولوية في تشكيل الحكومة رغم تقدم حزب المحافظين بـ (48)
مقعداً، فحزب العمال إذن ليس بخاسر ولا حزب المحافظين بفائز.
وهذا الواقع الانتخابي ينبغي أن يتم التعامل به في العراق أو في غير
العراق، فالقائمة العراقية رغم تفوقها بمقعدين على قائمة دولة القانون،
فإنها لم تحقق النصاب القانوني، فلا يصح القول بأنها القائمة الفائزة
ولا يصح لها ديمقراطيا المطالبة بتشكيل الحكومة، فحتى لو لم تفت
المحكمة الاتحادية العراقية بمفهوم الكتلة النيابية الفائزة وأعطت الحق
للكتلة الأكبر بعد انعقاد مجلس النواب في تشكيل الحكومة، فان الحزب
الحاكم له الأسبقية في ذلك، وإذا عجز عن ذلك تتقدم العراقية بتشكيل
الحكومة دون غيرها، وإذا عجزت يأتي الدور للإئتلاف الوطني ثم الكتلة
الكردستانية، ولكن قرار المحكمة وإصرار العراقية والجهل بالنظام
الديمقراطي حرم دولة القانون من مهمة تشكيل الحكومة وفرض عليها الدخول
في تحالفات هي غير راغبة فيها أصلا وإنما قبلت بها لقطع دابر الذين
يريدون تدويل العملية الإنتخابية، وكان بإمكان المشرع العراقي قراءة
التجارب الديمقراطية قبل تفويض الأمر للقضاء، ومن ثم تجنيب البلاد دخول
الكتل في تحالفات غير قابلة للهضم تحمل معها معاول هدمها!
ومن معالم التجربة البريطانية أنه لأول مرة في تاريخ الانتخابات
البريطانية قام المسلمون بتنظيم أنفسهم بخاصة في الانتخابات البلدية
التي جرت تزامنا مع الانتخابات البرلمانية العامة، حيث أصدر المسلمون
قائمة بأعضاء البلدية المرشحين في كل مدينة وحي ودعوا المسلمين إلى
انتخاب المرشحين المسلمين، في محاولة منهم لعدم تضييع أصوات المسلمين
وتشتيتها، وقام المرشحون بأنفسهم بطرق أبواب المسلمين ودعوتهم للمشاركة
في الإنتخابات، وهذا ما حصل في لندن، واعتقد أن هذه الخطوة الأولى من
نوعها، ليس حيث أسكن في شمال غرب لندن، أعطت ثمارها.
وما يلفت الانتباه في هذه الخطوة أنّ الإعلام لم يدخلها في باب
المزايدات العنصرية أو الطائفية أو الدينية، ولم يتم التعريض بها،
فالمرشحون المسلمون كانوا من كل الأحزاب البريطانية، وقد وجدت الأحزاب
البريطانية في هذه الأسلوب الجديد محاولة طيبة لتشجيع المسلمين على
المشاركة السياسية وإذابة جليد التقوقع الإجتماعي الذي يُتهمون به.
والتجربة الإنتخابية البريطانية المشابهة من حيث المؤدى للإنتخابات
العراقية هي في واقعهامرآة، فإذا ما شجعت قائمة الائتلاف الوطني
العراقي الناس على المشاركة لا يعني هذا اصطفافا طائفيا، وإذا ما
تحالفت قائمة دولة القانون مع قائمة الائتلاف الوطني، فلا يدخل هذا
التحالف في باب الاصطفاف الطائفي، فلا يعيب على الكتلة الكردستانية إذا
انتخبها الأكراد ولا يحرمها من لباس الوطنية، ولا يقدح في جبهة التوافق
إذا انتخبها المسلمون السنة ولا توصم بالطائفية، ولا يقلل من شأن
القائمة العراقية إذا انتخبتها مدن بعينها ولا توصف بالمناطقية،
فالقائمة الجماهيرية هي التي تخلق حراكاً إجتماعيا نحو تفعيل دور
المواطن في العملية السياسية، بغض النظر عن المذهب أو الجنس أو
المنطقة، وهذه حالة ديمقراطية متقدمة متروك أمر صقلها للزمن ولثقافة
ولاة الأمر.
لذا فإن الحديث عن إنهيار أمني بأدوات طائفية أو تأليب دول الجوار
بالضد من الائتلافات العراقية هو في عينه اصطفافا طائفيا عملت الحكومة
الحالية بجهود كل العراقيين على تفتيته والحيلولة دون انزلاق البلاد في
حرب أهلية ممولة خارجيا بوقود داخلية، بل إن الضرب على هذا الوتر يوقظ
الخلايا السرطانية الطائفية النائمة!
فالحكمة السياسية تقضي بأن يلتف الجميع حول الهم الوطني وخير
المواطن والعمل على تشكيل الحكومة بما يفتح الطريق واسعاً أمام السلم
المدني ويمهد السبيل لتطبيق بقية بنود الاتفاقية العراقية الأمريكية،
وخروج العراق من طائلة المادة السابعة، ويقطع الطريق على المتصيدين
بالماء العكر من داخل العملية الانتخابية وخارجها.
* الرأي الآخر للدراسات- لندن
alrayalakhar@hotmail.co.uk |