ربما أفضل وصف سمعته عن معضلة الفقر في العصر الحديث هو ما جاء على
لسان رئيس الجنوب الأفريقي (ميبيكي) أثناء خطابه في مؤتمر الأرض
بجوهانسبيرغ العام الماضي حين قال: “العالم أصبح جزيرة أغنياء تحيط بها
بحار من الفقراء”. إننا في الوقت الذي نجد فيه بحار الفقراء آخذة في
الاتساع أفقياً، نرى أبراج الأغنياء آخذة في الارتفاع عمودياً.
من حكمة رب العالمين أنه أوجد بذور الرحمة والعطف والإحسان في قلوب
الناس بمختلف أديانهم وأعراقهم وألوانهم، فهناك من يسقى هذه البذرة
وينميها، وهناك من يتجاهلها أو يخرجها من قلبه. الأيادي البيضاء من أهل
الخير تسعى للوصول إلى الفقير المحتاج من دون أن تنظر إلى دينه ومذهبه
وعرقه .. تنظر إليه كونه إنسانًا يستحق العطف والشفقة.
أهل الخير هم في الواقع أنوار الرحمة الإلهية على الأرض، تصل مدى
أنوارهم بمقدار بذلهم وعطائهم، فهم يرجون من عملهم مرضاة الخالق الذي
وهبهم الصحة والمال، فيصرفون جزءًا من مال الله على عيال الله من
الفقراء والمحتاجين. ولتقريب المعنى؛ نذكر المثال التالي: إننا لو ننظر
إلى خارطة العالم ونحن في غرفة مظلمة، فإننا نلاحظ مصابيح النور تشع
أضواءها في جميع القارات، الأنوار المشعة تختلف من قارة لأخرى، ومن
دولة لأخرى؛ وذلك بمقدار فعل الخير الصادر من كل دولة، ومدى نشاط
الجمعيات الخيرية ومنظمات الإغاثة التي تعمل على إيصال المساعدات إلى
الدول الفقيرة التي تعاني من المجاعة، والشعوب التي تتعرض للكوارث.
في الواقع، الأموال التي تُجْمَع من خلال الجمعيات الخيرية ومنظمات
الإغاثة تعتبر ضخمة جداً، وقد تفوق هذه الأموال موازنات سبعين دولة في
العالم. أكثر الجمعيات الخيرية نشاطاً وتمويلاً تتمركز في الولايات
المتحدة الأميركية، وتليها أوروبا، أما العالم الإسلامي فيأتي في
المرتبة الثالثة.
يكفي أن نعرف أن عدد الجمعيات الخيرية في الولايات المتحدة يربو عن
المليون ونصف مليون جمعية، وأن حجم العمل الخيري فيها يربو عن 630
بليون دولار، وأما في بريطانيا وحدها فتوجد أكثر من 180 ألف جمعية
خيرية بما فيها الجمعيات والمنظمات الخيرية الإسلامية، بينما في دول
مجلس التعاون الخليجي مجتمعةً توجد 850 جمعية خيرية.
وبعيداً عن لغة الأرقام، هناك صفحات مشرقة كثيرة في عمل الجمعيات
الخيرية في مختلف الدول، ولكن بعض أنشطة الجمعيات الخيرية شابتها بعض
الشوائب والشبهات، فبعض تلك الأنشطة اصطبغت بصبغة التبشيرية والدعوية
والطائفية، وأحياناً كثيرة دخلت السياسية لتفسد أعمال الخير وتحرّف
المسار الإنساني للجمعيات.
هذا على المستوى الداخلي، وأما على المستوى الخارجي، وبعد أحداث 11
سبتمبر، تدخلت السياسة الدولية في مسار الجمعيات الخيرية تحت ذريعة
تجفيف منابع الإرهاب، فأدت إلى محاصرة الجمعيات والصناديق الخيرية
ومنظمات الإغاثة الإنسانية، وكان الهدف من ذلك هو تجفيف منابع الخير في
البلدان الإسلامية.
وقد لعب الكيان الصهيوني دورًا كبيرًا في توجيه سياسات الإدارة
الأميركية، فوضعت القيود على أنشطة هذه الجمعيات في داخل بلدانها
وخارجها، وأصبحت حساباتها البنكية تحت المراقبة الشديدة، كما منعتها من
جمع التبرعات من المحسنين، وشددت الخناق عليها حتى في إيصال مبالغ
الزكاة إلى مستحقيها من فقراء المسلمين .. وكل ذلك بحجة عدم إيصال
المبالغ إلى الإرهابيين.
الحملة ضد الجمعيات الخيرية بدأت في أميركا، ومن ثم في أوروبا، حيث
تعتبر الجمعيات الخيرية هناك من أنشط الجمعيات، وأكثرها سخاءً في تقديم
العون الإنساني للشعب الفلسطيني، خاصة إبان الانتفاضة الأولى. وقد
تواصل تشديد الخناق على الجمعيات لتشمل معظم البلدان الإسلامية تحت
شعار (الحرب على الإرهاب)، فتحركت الحكومات، وبضغط من أمريكا في وضع
قوانين للأنشطة الخيرية، ومراقبة الصناديق والجمعيات والمنظمات
الإنسانية الخيرية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل نجحت الحملة الأمريكية والصهيونية في
القضاء على روح العطاء، وإطفاء أنوار الخير في قلوب المسلمين؟ الدكتور
هاني البناء رئيس (هيئة الإغاثة الإسلامية) في المملكة المتحدة يرد على
هذا التساؤل، فيقول: “إن العمل الخيري الإسلامي هو جزء من حياة الفرد
المسلم، وحياة المجتمع المسلم، وحياة الدولة المسلمة عامة. والله
سبحانه وتعالى خلق الإنسان على وجه هذه الأرض؛ لكي يعمل من أجل خيرية
الأمة وخيرية العالمين.
وهكذا فضل الله سبحانه وتعالى هذه الأمة بالخيرية، فكل مسلم في
قلبه وفي وجدانه أن يعمل الخير. ولا يستطيع أحد في العالم أن يوقف هذا
الخير من قلوب المسلمين”. |