وضعت الإدارة الأميركية معايير جديدة لاستراتيجيتها النووية، وتعهدت
بموجبها عدم تطوير أي رؤوس نووية جديدة، وعدم استخدام السلاح النووي ضد
التهديدات غير النووية، ويقصد البلدان غير النووية.
كما وضعت في أولوياتها حماية حلفائها، وتقوية نظام (ردع إقليمي) ضد
أي مخاطر نووية. هذه هي المعايير الأربعة التي أعلن عنها باراك أوباما
قبيل سفره إلى براغ؛ للتوقيع على معاهدة (ستارت 2)؛ لخفض الأسلحة
الاستراتيجية مع روسيا. المعايير الأربعة وضعت في صورة تقرير تفصيلي،
وحسب التقرير، فإن الرئيس أوباما استثنى دولاً، هي إيران وكوريا
الشمالية، محتفظًا لبلاده الحق في استهدافهما في حال عدم التزامهما
بمعاهدة مكافحة الانتشار النووي، وسعتا لزعزعة الأمن الإقليمي، أو أمور
مضرة بالولايات المتحدة.
التقرير يكشف لنا عن ثلاثة استنتاجات... الأول: أن الإدارة
الأميركية منحت نفسها دور (شرطي العالم) من دون تفويض من قبل مجلس
الأمن والأمم المتحدة. والثاني: أعطت لنفسها الحق في توجيه ضربة نووية
ضد أي دولة نووية تهدد الأمن الدولي والمصالح القومية للولايات المتحدة،
من دون الرجوع إلى مجلس الأمن. والثالث: أرادت توجيه رسائل إلى القوى
الدولية، مفادها أن الولايات المتحدة مازالت سيدة العالم، فهي القطب
الأوحد والأقوى، والتي يحق لها التصرف وفق مصالحها، لكنها تفضل إيجاد
حلول للأزمات الدولية وفق مبدأ (الشراكة).
الاستنتاجات الثلاثة تكشف أن روح الغطرسة مازالت تهيمن على الإدارة
الأميركية، وربما تختلف هذه الإدارة عن سابقتها في الشكل واللغة
البراغماتية، إلا أنها لا تتردد في التلويح بدبلوماسية القوة حيناً،
واستخدام الآلة العسكرية ضد أي دولة ترفض الانصياع لشروطها حيناً آخر!
لقد تفاءلنا بفوز باراك أوباما وقلنا في حينها إن الأرواح الشريرة التي
سكنت البيت الأبيض طوال ثمانية أعوام قد خرجت بخروج جورج دبليو بوش،
لكن يبدو أن تلك الأرواح اشتاقت إلى وكرها، وعادت لتمارس مكرها من جديد
وبأسلوب جديد.
رد فعل الحكومة الإيرانية على التقرير كان متوقعًا، فبعد ساعات من
نشره وجّه الرئيس الإيراني خطاباً ملؤه السخرية إلى أوباما، قائلاً:
“سيد أوباما، أنت جديد في السياسة، انتظر حتى تكتسب بعض الخبرة، وكن
حذرًا، واحسب حساب ما تفعل، واعلم أن أشخاصًا أكثر أهمية منك لم يقدروا
على فعل شيء ضد إيران”، وأما الرد العملي فقد كان يوم الجمعة الماضي
حين عُرِض الجيل الثالث لأجهزة الطرد المركزي، وهي تتميز بقدرة على
التخصيب أكثر بستّ مرات من طاقة الجيل الأول.
من جانب آخر، روسيا والصين اللتان تراقبان عن كثب مغامرات الإدارة
الأميركية تجاه إيران، تعارضان فرض عقوبات صارمة ضدها، وتفضلان الحل
الدبلوماسي. الدولتان أبدتا انزعاجهما من تفرد الولايات المتحدة برسم
السياسة الدولية، وتضغطان من أجل وضع منظومة جديدة في العلاقات
الدولية.
بُعيد التوقيع على معاهدة (ستارت 2)، شدّد أوباما على تنفيذ عقوبات
صارمة ضد إيران، بينما الرئيس الروسي مدفيديف أكد “أن أي عقوبات ذكية
على إيران يجب أن تأخذ في الاعتبار المصالح القومية لروسيا”. التصريحان
يوضحان مدى الاختلاف والتضارب في المصالح بين الدولتين. وكما أشرنا،
فإن المخاوف والشكوك من جهة، والتنافس بين الدولتين من جهة أخرى سوف
يدوم.
روسيا من جهتها تسعى جاهدةً للحيلولة دون حصول الولايات المتحدة
على التفوق والامتياز في مجال سياسة الردع الصاروخي في أوروبا من جهة،
والعمل على منع تفرد واشنطن في حل الأزمات الدولية من جهة أخرى.
والولايات المتحدة من جهتها، تريد حل الأزمات العالمية بصورة جماعية
وفق قناعاتها، ولكن بشرط أن تحتفظ لنفسها بالحق في قيادة الفريق
الدولي.
هذا يعني أن سياسة الشدّ والجذب، والقبض والبسط ستبقى مهيمنة على
العلاقات الدولية ولفترة طويلة، مما ستترك تأثيرها على الملفات
الساخنة، كالملف النووي الإيراني. هذا الملف سيبقى مثار جدل طويل وشاق
بين القوى الدولية؛ وذلك بسبب إصرار الجانب الروسي والصيني على اتباع
الوسائل الدبلوماسية من جهة، وإصرار الجانب الإيراني على المضي في
برنامجها النووي من جهة أخرى. والنتيجة كما أشرت قبل أكثر من عام، فإن
المجتمع الدولي في نهاية المطاف سوف يتعايش مع إيران النووية. |