مفهوم الجهاد وتحديات إثبات المصداقية على المستوى العالمي

 

شبكة النبأ: يرى البعض أن مفهوم الجهاد قد طرأت عليه عديد من المتغيرات في القرن الحادي والعشرين، خصوصًا أثناء السنوات القليلة الماضية، لاسيما وأن أكبر ممثل لفكر الجهاد أي منظمة القاعدة فقدت قدرتها على أن تكون فاعلاً سياسيًّا جماعيًّا، كما أنها لا تعد خصمًا قادرًا على تحقيق رغباته.

ولكن على الجانب الآخر، يرى آخرون أن نقاط الضعف التي يعاني منها الجهاد الجديد هي أيضًا نقاط قوة، فعلى الرغم من أن المتغيرات الحالية تشير إلى أن القوات المحاربة أو الجهادية الإسلامية قد أضحت ضعيفة سياسيًّا، فهناك عدد من المؤشرات على أن هذه الكيانات تمتلك من المقومات ما يمكنها من النجاة من أزمتها الحالية.

في هذا السياق يأتي مقال توماس ريد الباحث بمركز شالم في القدس، والذي يحمل عنوان شقوق في جدران الجهاد Cracks in the Jihad، والذي نشرته دورية ويلسون الربع سنوية في عدد شتاء عام 2010. بحسب موقع تقرير واشنطن.

تحديات الجهاد العالمي

يشير المقال إلى أنه في أعقاب 2001، وعندما قامت الولايات المتحدة وقوات التحالف بإسقاط نظام طالبان وتدمير تنظيم القاعدة في أفغانستان، بدأت شعبية ابن لادن تنقص في العالم الإسلامي. ومن ثم مر الجهاد العالمي بمجموعة من التوترات الداخلية المتزايدة، واليوم يمر الجهاد بثلاثة تحديات أيديولوجية وتنظيمية متميزة، من المتوقع ألا تتأثر بالسياسة الأمريكية في أفغانستان، سواء أنجحت أم فشلت على نحو كبير.

يتمثل التحدي الأول، في أعمال التمرد التي تقوم بها الجماعات الإسلامية المحلية، والتي تدعمها الشَكاوي ضد أنظمة الحكم "المرتدة" الفاسدة الاستبدادية.

التحدي الثاني، إرهاب الجريمة المنظمة (الذي يتضح بشكل خاص في أفغانستان وإندونيسيا وأحيانًا في أوروبا) والذي يرتبط بالمخدرات، وأعمال الابتزاز، وغيرها من النشاطات المحظورة عادية الأخرى.

التحدي الأخير، تشمل عددًا من مسلمي المهجر من أبناء الجيلين الثاني والثالث المتورطين فيما يسمى بالجهاد المقدس نتيجة إحساسهم بالسخط إزاء أوضاعهم الشخصية.

ومن ثم يواجه تنظيم القاعدة مهمة الإحاطة بالمجاهدين الذين ينجرفون إلى الجريمة المنظمة، وفي الوقت ذاته الإبقاء على خطابه الموجه إلى عموم المسلمين والذي يشمل كثيرًا من الوعود والتطلعات.

الانضمام للقاعدة يفقد الشعبية

من الناحية التاريخية، مالت المجموعات الإسلامية إلى النمو محليًّا، ولم تتجه إلى تبني رؤى عالمية إلا مؤخرًا. كل الجماعات المرتبطة بالقاعدة سواء قبل ولادة الجهاد العالمي في أوائل التسعينيات أَو تلك التي نمت لاحقًا نتيجة أسباب محلية، هي ترتبط به من حيث الشعار فقط ليس أكثر.

فتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، على سبيل المثال، نشأ في عام 1998 كجماعة سلفية للوعظ والجهاد. ويعد هذا التنظيم فرعًا لمجموعة مسلحة ترجع جذورها إلى الحرب الأهلية في الجزائر في أوائل التسعينيات. كما يبدو أن الانتماء للقاعدة بدا جذابًا للجماعات الناشئة بسبب مخاوف محلية في كل من الصومال، مصر، السعودية، وبلدان أخرى.

وبالانضمام إلى القاعدة وتصعيد العنف، يخاطر المتمردون في هذه الدول بوضع أنفسهم على قوائم المستهدفين من قبل الحكومات، وفي الآونة الأخيرة خاطرت هذه الجماعات بالخروج عن الاتجاه العام للشعوب ومن ثم فقدان الدعم الشعبي. هذا مع حدث تنظيم القاعدة في العراق أثناء الصحوة السنية، التي بدأت في 2005 في محافظة الأنبار. ولم تقتصر الصحوة على الأنبار، بل امتدت من منطقة لأخرى في العراق مع قيام الأئمة الجهاديين السابقين بمراجعة التبريرات اللاهوتية للجهاد.

بداية المراجعات

تجدر الإشارة إلى أن الاتجاه نحو المراجعة قد بدأ في "الجماعة الإسلامية" أكثر الجماعات الإرهابية تطرفًا في مصر والتي كانت مسئولة عن اغتيال الرئيس المصري أنور السادات في 1981 وقتل 58 سائحًا في الأقصر في 1997؛ فمع نشوب الحرب فالعراق في 2003، نصحت قيادات الجماعة الإسلامية الشباب بألا يشاركوا في عمليات منظمة القاعدة واتهموها بتقسيم الصف الإسلامي عبر إثارة ردود الأفعال العدائية ضد الإسلام وترجمة معنى الجهاد بشكل خاطئ وعلى نحو عنيف.

ظهرت مراجعات عديدة للفكر الجهادي كان من أبرزها في سبتمبر2007 عندما قام رجل الدين السعودي المؤثر سلمان العودة (الذي كان قد أعلن أن قتال الأمريكيين في العراق يعد واجبًا دينيًّا)، بإدانة تنظيم القاعدة، متهمًا ابن لادن بالإرهاب وبأنه المسئول عن جعل الإرهاب مرادفًا للإسلام.

ربما يكون المصدر الأساسي للتوتر بين الحركات الجهادية العالمية وتلك المحلية مرتبطًا بالانقسام بينها بشأن الأهداف والوسائل الملائمة. إذ يرى المذهب الإسلامي الكلاسيكي في الجهاد المسلح وسيلة دفاعية ضد الاضطهاد، والظلم، والاعتداءات على الأراضي الإسلامية. وفي محاولة لتعبئة المسلمين حول العالمِ لمحاربة السوفييت في أفغانستان، حاول عبد الله عزام، أحد رجال الدين ذوي النفوذ والذي تم اغتياله في عام 1989، توسيع نطاق الجهاد بإعلان أن الجهاد في أفغانستان فريضة على كل مسلم، كما تبنى عزام تكفير بعض المسلمين لتبرير قتلهم.

وقد أعلت أيديولوجية القاعدة من مثل هذه الحجج العدوانية، ووسعت من نطاق الجهاد من الدفاع ليصبح وسيلة للكفاح العالمي، على نحو يؤدى لتماهي الخطوط الفاصلة بين العدو القريب والعدو البعيد.

وهو ما يتناقض تمامًا مع طبيعة الجهاد بين المسلمين في المهجر، فبالنسبة للإسلاميين المتشددين في أوروبا لا يوجد جهاد محلي، وهم يرون أن إسقاط الحكومات في لندن أَو أمستردام مثلا يعد من ضروب الخيال. أي إن ما يحركهم هو المصالح وليس الهوية. لاسيما وأن غالبية الشباب المسلم في أوروبا يعانون من أزمة هوية فلا هم مرتبطون ببلدانهم الأصلية ولا هم يشعرون بالانتماء التام للبلاد التي يعيشون فيها، على نحو يجعلهم في حالة اشتياق للتعليمات الروحية الواضحة.

فقدان التواصل بين المركز والأطراف

ومن ثم فإن عقيدة الجهاد العالمي، طبقًا لبعض التحليلات، تعطي معنًا للشعور بالاستبعاد السائد بين أبناء الجيلين الثاني والثالث للمهاجرين المسلمين. إذ يبدو أن هذا الشباب الذي يعاني من الاغتراب مستعدًَا لفكرة المواطنة في الجالية الإسلامية العالمية الافتراضية. ومن الواضح أن مشكلة الهوية لدى هؤلاء الشباب قد أَثرت على طبيعة الجهاد ذاته، إذ أصبح للجهاد العالمي جذور طليقة وأطراف سياسية مخدرة. ومن أهم دلائل ذلك أن تنظيم القاعدة لا يضم أفرادًا قادرين على المشاركة في عمليات الجهاد في بلدانهم على الرغم من أنه يضم مجاهدين من فلسطين، الشيشان، العراق، أفغانستان، فضلاً عن عدد من البلدان التي فشل فيها الجهاد مثل مصر، السعودية، ليبيا، وسوريا.

أكثر السلفيين تشددًَا محرومون من الهوية ومن التوجيه الثقافي ومن ثم فهم متلهفون للمثالية، تجنيد أفراد لهذه الجماعات في بلدان المهجر يتم عبر آليات متميزة، لا تعتمد على اعتبارات حزبية أو سياسية بل على مدى التشدد والتعصب، كما يأخذ كثير من الأفراد المبادرة للانضمام إلى الحركة بأنفسهم، ولأنهم لم يجندوا من قبل أحد الأعضاء في المنظمة الحالية، فإن علاقتهم بها تكون غير محكمة. ففي عام 2008 وحده، تم اعتقال 190 فرد لانضمامهم للنشاطات الإرهابية الإسلامية في أوروبا، معظمهم في بريطانيا، فرنسا، وإسبانيا، وغالبيتهم أعضاء في خلايا صغيرة مستقلة وليس إلى المنظمات الإرهابية المعروفة.

ونتيجة للتغيير في عضويته، يواجه تنظيم القاعدة العالمي من مشكلات مختلفة، إذ تفقد المراكز والأطراف الصلة مع بعضها البعض. تعتمد أيديولوجية الجهاد التي تتبناها منظمة القاعدة على رؤية مستلهمة من آليات العمل الماركسية القائم على الدعم الجماعي الشعبي ممزوجة بأفكار القرن الحادي والعشرين المتعلقة بالعمل الفردي والتشبيك وذلك بهدف ابتكار طريقة لتحويل المبادرات الفردية من مجرد ردود أفعال متفرقة إلى ظاهرة بحيث يتحول مشروع الجهاد العالمي إلى معركة الأمة الإسلامية، وليس مجرد كفاح من قبل النخبة.

وتكمن أكبر مشكلة في هذا السياق فيما يسمى "الجهاد على الإنترنت". فبالنسبة للقاعدة، شكلت المنتديات التي يديرها إسلاميون غير تابعين لها القاعدة الأكثر أهمية للتواصل مع المجاهدين، لكن بعد القبض على أحد كبار النشطاء المسئولين عن أحد هذه المنتديات على الإنترنت في لندن قبل سنتين، بدأ التواصل بين هذه المنتديات وتنظيم القاعدة بالتحلل. أي إن القاعدة فقدت السيطرة على الجهادِ على الإنترنت. من ناحية أخرى، يواجه الجهاد على الإنترنت منافسة حادة من قبل أصحاب الأفكار المثيلة، حيث يرى البعض أن النزاعات البينية في أوساط الجهاديين سادت على منتدياتهم على الإنترنت خلال السنوات الأخيرة.

الارتباط بالجريمة المنظمة

تتمتع بعض الجماعات الجهادية الواسعة باستقلال من نوع آخر، فنتيجة لارتباطهم بالجريمة المنظمة أمكن لهذه الجماعات تأمين مصادر تمويل خاصة بها. وهو الأمر الذي كرس من الخلافات في إطار الحركة الجهادية العالمية. ويرى البعض أن جانبًا من هذه الجماعات قد تحولت تنظيمات إجرامية بحتة، مع تبرير ذلك بأسباب متوافقة مع الجهاد، إذ يرى محمد باز مثلاً (من أوائل الجهاديين الأفغان الذين اتجهوا إلى بيع المخدرات خاصة الهيروين إلى الولايات المتحدة الأمريكية) أن بيع الهيروين في الولايات المتحدة يعد جهادًا لأنه يؤدي إلى قتل الأمريكيين والحصول على أموالهم في الوقت ذاته.

ومثل هذه الجماعات لا تتمتع بأية فرصة للتحول إلى قوى سياسية جدية، ففي النهاية لن يبقى منها سوى السجل الإجرامي وستفقد لمعانها الشعبي المبني على الحماس الديني، ومن ثم فهي ضارة بمنزلة الجهاد في نظر الجمهور الإسلامي العام. ويبدو أن هذا بدأ يحدث بالفعل فالقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي تُموّلُ ذاتها عبر تجارةِ المخدّرات، التهريب، الابتزاز، وأعمال الاختطاف في جنوب الجزائر وشمال مالي. أما جماعة أبو سياف في إندونيسيا والجماعة الإسلامية الفلبينة فتتورطان في مجموعة من النشاطات الإجرامية، منها تزوير بطاقات الائتمان.

هدف القادة الإسلاميون دائمًا إلى تحويل معاركهم إلى "معارك للأمة الإسلامية بأكملها، ويبدو أن الجهاد يبتعد عن تحقيق ذلك الهدف، فبعد ثمان سنوات على أحداث 11 سبتمبر 2001، يبدو أن الدعم الشعبي في العالم الإسلامي للجماعات المتشددة في أقل معدلاته، إذ انخفض الدعم الشعبي للقاعدة بشكل مثير جدًّا في إندونيسيا، وباكستان، والأردن من 50% في 2003 إلى 25% بحلول 2009. وفي باكستان، المعقل التقليدي للفكر المتطرف لدى 9% فقط من المسلمين رؤية إيجابية بشأن تنظيم القاعدة.

تراجع الشعبية ولكن..

ولكن سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن هذه الشقوقِ في جدران أيديولوجية تنظيم القاعدة تعني أن نهايتها قد اقتربت. وبعيدًا عن القاعدة، يبدو أن الأيديولوجية الإسلامية بدأت تفقد شعبيتها الواسعة. ولكنها لا تزال الرابطة المتماسكة الحاسمة التي تربط النخب المتشددة على تنوعها، فالسلفية، على الرغم مِن أزمتها، لا تزال جذابة لأولئك المنتمين للهوامش الاجتماعية. يبدو أن أحد أهم وظائف العقيدة الإسلامية حاليًا تتمثل في حل تناقضات الجهاد في القرن الحادي والعشرين، ومنها: أن يكون المسلم تقيًّا من جانب، ورغم ذلك يهاجم النساء والأطفال من جانب آخر؛ الانصياع للقرآن من جانب وممارسة الجريمة من جانب آخر، الاعتماد على دولة الرفاهة الغربية والعمل ضدها من جانب آخر.

إن الجهاد العالمي أضحى يفقد مصداقية قضيته، ومعها يفقد طابعه السياسي، وهذا التغير يجعل من الصعب جدًّا التمييز بين الجهاد والجريمة المنظمة. وهذا ما يستدعي التشكيك في فكرة أن الحرب ما زالت مستمرة ولكن بوسائل أخرى. من ناحية أخرى، فإن حركة الجهاد العالمي وتحت ضغوط الخصوم والمتغيرات المرتبطة بشبكة بالإنترنت، أضحت مفككة وفقدت قدرتَها على التحرك ككيان متماسك واحد. ولأن الجهاد يفتقد وجود مركز موحد للقوة، فليس له أيضًا نقطة ضعف واحدة يمكن الضغط عليها. وعليه، فمهما كانت نتيجة العمليات التي تقوم بها الولايات المتحدة في أفغانستان وغيرها من دول أخرى، فسوف يظل خطر التعرض لهجمات إرهابية قائمًا في المستقبل المنظور.

ومن ثم فإن مواجهة الإرهاب، تعتمد على الكم بقدر ما تعتمد على الكيف. إلا أن التقديرات تختلف في هذا السياق، فعدد القوات الأمريكية والأوروبية الإضافية المرسلة إلى أفغانستان تعد أقل أهمية من عدِ المؤامرات الإرهابية التي أمكن منعها. كما أنه من اللازم أن تضع جهود مواجهة الإرهاب في الاعتبار أن الاشتراك في الجهاد بكل أشكاله المحلية والعالمية هو في النهاية قرار فردي، ومن ثم فالأفراد يجب أن يشكلوا وحدة التحليل الأساسية لهذه الجهود، كما يجب أن يكون التأثير على هؤلاء الأفراد هو الهدف النهائي للسياسات والاستراتيجيات المختلفة التي يتم تبنيها في هذا الصدد.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 14/نيسان/2010 - 28/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م