جنوب السودان... مثلث في الانفصال وازدهار النفط وجذوة النزاعات المتّقدة

إعداد: صباح جاسم

 

شبكة النبأ: في ظل الخطوات المتعثرة التي يخطوها جنوب السودان نحو الاستقلال في العام المقبل يستعد عمال نفط من الصينيين في اكبر دولة افريقية من حيث المساحة للتصدي للمشكلات.

أما بالنسبة لقرويين جنوبيين مثل ماريا جاندي فان الاضطرابات قائمة بالفعل. فقد خطف رجال قبيلة الدنكا لفترة وجيزة جاندي وأسرتها وأكثر من عشر نساء وأطفال في غارة الشهر الماضي أهلكت المحاصيل ومخزونات الطعام وقتلت خمسة رجال من قبيلتها منداري.

والفرق شاسع بين الآمال التي تبلورت في جنوب السودان قبل خمسة أعوام عندما حمل اتفاق سلام مع الحكومة التي يهيمن عليها العرب في الخرطوم بشمال السودان وعدا بإنهاء صراع امتد لأكثر من عشرين عاما.

وفي المقابل بدأت تطفو على السطح النزاعات القديمة بين عشرات القبائل في الجنوب. وقالت جاندي وهي تقف بجانب قدر تطهو فيها لحم ماعز نتنا تحت شجرة مانجو في تريكيكا التي تبعد 100 كيلومتر شمالي جوبا عاصمة جنوب السودان " اذا بقينا هنا فسنموت من الجوع. لا يوجد طعام."

وبينما كانت تتحدث راح توأماها اللذان يبلغان من العمر خمس سنوات يختبئان في طيات تنورتها الرثة وهو ما لا يمثل حماية تذكر من الامطار السنوية والبعوض الحامل للملاريا المنتظر ان يتدفق بأعداد كبيرة خلال ايام.

وساندت مجموعة من الحكومات الاجنبية منها الولايات المتحدة وكينيا واوغندا وبريطانيا اتفاق السلام الشامل في السودان لعام 2005 والذي منح الجنوب حكما ذاتيا ونصف العائدات النفطية من الابار الواقعة على حدوده مع الشمال وطريقا للاستقلال من خلال استفتاء بحلول يناير كانون الثاني 2011.

واسوأ السيناريوهات هو ان يستعر من جديد العداء بين الشمال والجنوب والذي يمزق السودان حتى قبل استقلاله عن بريطانيا عام 1956 ويعيد اشعال حرب اهلية من شأنها ان تزعزع استقرار شرق افريقيا وتوقف انتاج النفط من ثالث اكبر منتج له في افريقيا جنوب الصحراء.

والسيناريو الثاني الذي تفضله الولايات المتحدة هو ان يتفاوض الجنوب على "طلاق مدني" لا على حرب اهلية مع الخرطوم مما يكفل عوائد نفطية بمليارات الدولارات يمكن ان يستغلها في ان يخرج نفسه من حالة توقف التنمية الناجمة عن الحرب.

وبموجب هذا السيناريو ستتدفق الاستثمارات الاجنبية التي ستطور احتياطيات النفط المأمولة في انحاء المنطقة وستنشأ مزارع ومصائد حديثة تتغذى من مياه النيل وروافده.

بل جمح الخيال بالوزراء الجنوبيين الى حد الحديث عن افواج من السائحين الاجانب تتوافد لتشاهد هجرات الحيوانات البرية التي يقال انها تنافس الموجودة في غابات ماساي مارا في كينيا.

ويشير التاريخ الى ان المتفائلين في جنوب السودان - وهي منطقة في حجم تكساس ويقدر سكانها بما بين ثمانية وثلاثة عشر مليون نسمة - من المرجح ان يكونوا على خطأ اكثر منه على صواب. فعودة الحرب ليست مستبعدة. بحسب رويترز.

ففي السنوات الخمس التي تلت اتفاق السلام ذهبت اموال النفط التي الت للجنوب وتتجاوز ملياري دولار في العام لدفع رواتب الموظفين والجيش الشعبي لتحرير السودان وهو حركة جنوبية متمردة تحولت الى حكومة للجنوب.

لكن الجيش الجنوبي الذي انقذ جنوده جاندي واسرتها من خاطفي الدنكا انفق ايضا بعض الاموال على اعادة التسلح وذلك طبقا لتقرير لمؤسسة (مسح الاسلحة الصغيرة) المعنية بمراقبة تجارة الاسلحة حول العالم.

ويقدر المسح ان الجنوب اشترى اكثر من 100 دبابة تعود للحقبة السوفيتية ومدافع مضادة للطائرات وقاذفات صواريخ وعشرة الاف بندقية كلاشنيكوف بين 2007 و 2009 مشيرا الى صور الاقمار الصناعية وتقارير عن شحنات الاسلحة من اوكرانيا عبر كينيا. ولم يخرق مثل هذا التدفق حظرا للاسلحة اتفق عليه الجانبان فحسب بل يضمن ايضا ان تتجاوز اثار اي صراع حدود جنوب السودان.

والى جانب ما تردد عن شراء الشمال اسلحة من الصين وايران وروسيا البيضاء فقد اصابت انباء شراء الجنوب للاسلحة شركات النفط الصينية والهندية والماليزية بالتوتر. وتدير هذه الشركات حقول جنوب السودان التي تقع قرب الحدود غير الرسمية.

ففي حال اندلاع صراع فلن يكون امامها من خيار يذكر سوى وقف الانتاج من بلد يعتبر رابع او خامس مزود للصين بالنفط في اغلب عام 2009.

وذكر مصدر صناعي مقرب من العمليات النفطية الصينية في السودان ان شركة البترول الوطنية الصينية (سي.ان.بي.سي) اكبر لاعب اجنبي في صناعة النفط السودانية بحصة تقارب 40 في المئة "تأمل في الافضل لكنها تستعد للاسوأ".

وقال المصدر الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته "ان تصويتا على استقلال الجنوب من المرجح ان يؤدي الى اشتباكات بين الشمال والجنوب وهو اسوأ السيناريوهات التي لا نود ان نراها."واضاف المصدر انه ليس امام الشركة الصينية من خيار سوى ان "توقف الانتاح وتجلي عمالها البالغ عددهم الفي شخص في الخرطوم والحقول النفطية."

غير ان محللين يقولون انه لا الشمال ولا الجنوب لديه الكثير ليكسبه من استئناف الاعمال القتالية. فتعطل صادرات النفط سيوقف اموالا تمثل طوق نجاة لكلتا الحكومتين الان وفي المستقبل المنظور.

وقال زاتشاري فيرتين محلل شؤون السودان بالمجموعة الدولية لمعالجة الازمات في نيروبي "بقدر ما كان النفط مصدرا كبيرا للصراع في الماضي فانه يمثل اكبر عامل منفرد يمكن ان ينزع فتيل تجدد الصراع اذا استطاع الطرفان الاتفاق على اقتسام الثروة."

ويمثل نفط الجنوب نصيب الاسد من مجمل انتاج السودان من الخام رغم ان الحصة الدقيقة تعتمد على الترسيم النهائي للحدود بين الشمال والجنوب في مناطق مثل ابيي وهي ايضا بالغة الحساسية بدرجة استثنتها من اتفاق 2005.

بيد ان ما هو اكثر اهمية للجنوب هو مرور كل انتاجه النفطي في خط انابيب عبر الشمال الى ميناء بورسودان على البحر الاحمر. ويعني هذا ان الخرطوم يمكنها اذا ارادت ان تقطع تدفق العائدات التي تمثل 98 في المئة من ميزانية الجنوب.

وفي هذه الحالة سيجد جنود الجيش الشعبي لتحرير السودان سريعا انفسهم دون رواتب مما يشير الى ان جنرالات الجنوب سيلاقون صعوبة في تعبئة اعداد كبيرة من القوات.

الجنوب.. وجهة راغبي المكسب السريع!

ويعد جنوب السودان أحدى أفقر مناطق العالم حيث يعاني أربعة من كل خمسة أشخاص من الامية ويموت واحد من كل خمسة أطفال قبل بلوغ الخامسة من العمر لكن اقتصاد الجنوب انقلب رأسا على عقب منذ انتهاء الحرب الاهلية في عام 2005 بعد أن استمرت 22 عاما.

وبفضل تدفق عمال الاغاثة الاجانب وعائدات نفطية تتجاوز ملياري دولار في العام بموجب اتفاق السلام مع الحكومة المركزية في الخرطوم تحول الجنوب الى أحد أغلى المناطق في افريقيا.

وفيما يفتش أطفال مشردون في أكوام القمامة الموجودة بشوارع جوبا عاصمة الجنوب البائسة يحاول متجر كبير وحيد ارضاء أذواق نخبتها الجديدة ومعظم أعضاء هذه النخبة من المقاتلين السابقين بالجيش الشعبي لتحرير السودان. بحسب رويترز.

وبما أن كل شيء ينقل بشاحنات من كينيا المجاورة عبر طرق ترابية وعرة او بزوارق عبر النيل من أوغندا فان السلع اللازمة لارضاء هذه الاذواق تأتي بثمن غير قليل. وفي جنوب السودان الذي تساوي مساحته مساحة تكساس لا تتجاوز الطرق الممهدة 50 كيلومترا.

وتبلغ تكلفة عبوة من أرز (كيلوجز) المحمص 24 جنيها سودانيا (9.20 دولار). ويبلغ سعر لتر من مشروب (جوني ووكر بلو ليبل) الكحولي نحو 300 دولار.

ولا يعرف أحد عدد الاشخاص الذين يعيشون بالمدينة غير أن البعض يقول ان عدد سكانها بلغ ثلاثة أمثاله في الاعوام الخمسة الاخيرة بسبب وفود عشرات الالاف من الكينيين والاوغنديين لتحقيق مكاسب سريعة.

ويقول اموس نجاي وهو سائق سيارة اجرة من نيروبي يأمل أن يساعده العمل لمدة عام في جوبا على اقامة مشروعه الخاص للنقل بالشاحنات "جني 100 دولار صعب في كينيا. هنا سهل."وليس الافارقة وحدهم هم الذين يضعون أعينهم على الاموال.

ويتباهي عمال الاغاثة الاجانب الذين يتحصنون وراء أسوار السلك الشائك والحراس المسلحين في مخيمات شبه دائمة على ضفاف نهر النيل بأنهم يكسبون عشرة الاف دولار شهريا معفاة من الضرائب فضلا عن الاعتناء بجميع تكاليف معيشتهم.

وقال متعاقد أمريكي يعمل في مجال الاغاثة وهو يحتسي الجعة الباردة في حانة على ضفاف النيل "تعلم ما يقولون... في أماكن مثل هذا لا يوجد سوى المبشرين والمرتزقة وغير المنسجمين مع المجتمع. انا.. بالطبع انا هنا من أجل المال وحسب."

وتراوح رواد الحانة الاخرون بين نشطاء مؤيدين للديمقراطية من المعهد الجمهوري الامريكي الدولي وجنود سابقين يقضون حياتهم في تتبع الصراعات في أنحاء العالم ليزيلوا الالغام والقنابل التي لم تنفجر. وحتى بالنسبة للاشد بأسا فان تركة صراع أودى بحياة مليوني شخص قد تكون مسببة للاكتئاب.

وقال شخص مخضرم في عمليات ازالة الالغام في لاوس وأفغانستان وهو يشرب زجاجة من الجعة الكينية المستوردة "انا لا أشتري الجعة المحلية. انها ليست قوية بما فيه الكفاية. لا تسبب الاثر المطلوب."أريد حقا العودة الى أفغانستان. انه مكان جميل."

أمريكا تدرس انفصال جنوب السودان 

من جانب آخر قال سكوت جريشان المبعوث الامريكي الخاص للسودان ان الولايات المتحدة تأمل ان تمهد انتخابات الشهر القادم في السودان السبيل الى "طلاق مدني لا حرب أهلية" بسبب تحركات من اجل الانفصال في الجنوب الغني بالنفط.

وأقر جريشان بوجود مشكلات في الاعداد لانتخابات ابريل نيسان لكنه قال انها مع ذلك يجب ان تجرى في موعدها حتى تتكون الهياكل الديمقراطية اللازمة لعلاج القضية الخاصة بوضع جنوب السودان الذي سيتحدد في استفتاء في يناير كانون الثاني القادم.

وقال ان الولايات المتحدة مستعدة لاي انفصال في نهاية الامر قد يسفر عنه الاستفتاء وتعمل لحل القضايا الخلافية املا في تفادي تكرار الحرب الاهلية التي استمرت عقدين وانتهت قبل خمس سنوات.

وقال جريشان "لا أرى ان الشمال مضطر لاعادة غزو الجنوب وبدء الحرب مرة اخرى. واذا استطعنا حل هذه القضايا فانني اعتقد ان الاحتمالات جيدة ان يشهد الجنوب طلاقا مدنيا لا حربا اهلية."

واضاف قوله ان انتخابات الشهر القادم حتى ان كانت معيبة فستكون خطوة نحو ارساء اطار ديمقراطي لقوائم الناخبين والسلطات الانتخابية والمراقبين الامر الذي سيعزز عملية صنع القرار السياسي.

وقال لرويترز في مقابلة "من المهم ان تجرى الانتخابات في موعدها وان تجرى بطريقة يراها الناس انفسهم جديرة بالثقة."واضاف قوله "ما نحاول عمله الان هو فعل ما في استطاعتنا الان ثم عمل التعديلات التي نحتاج اليها."

وقال جريشان ان واشنطن بدأت فعلا تأخذ في الحسبان احتمالات انفصال الجنوب. وقال "بالنظر الى الحقائق على الارض فان الاحتمال كبير ان يختار الجنوب الاستقلال."

واضاف ان واشنطن "تدرس كل الخيارات" بشأن كيفية مساندة جنوب السودان اذا حصل على الاستقلال في المستقبل لكنها تركز الان على محاولة ضمان الانتقال السلمي.

وقال جريشان ان القضايا التي يجري دراستها تشتمل على مسألة المواطنة وتعيين الحدود وكيفية تقسيم الارباح من الثروة النفطية للسودان التي ينتج جزء كبير منها في الجنوب ولكنها تشحن الى الخارج عبر الشمال. وقال "انه وضع يفوز فيه الجميع ذلك الذي نحاول الوصول اليه."

واضاف ان ذلك سيكون صعبا تحقيقه اذا لم تكن حكومة الخرطوم مستعدة لمناقشة شروط أفضل للجنوب وكذلك لدارفور وغيرها من الاجزاء المضطربة من البلاد وهو امر قال انه بدأ يحدث. وقال "مع ان التقدم بطيء لكننا نصنعه."

معارض جنوبي: انفصال الجنوب انتحارا

من جهة أخرى اعتبر لام اكول، المرشح الى الانتخابات الرئاسية في جنوب السودان ضد سالفا كير، ان الدعوات الى انفصال جنوب السودان هي "انتحار" سيضع هذه المنطقة الشاسعة والتي تشهد تناميا متجددا للعنف القبلي امام خطر "الصوملة".

وقال اكول لمجموعة من الصحافيين في الخرطوم انه "بالنظر الى الضعف الراهن لحكومة الجنوب فان اي دعوة للانفصال ستكون بمثابة انتحار".

وانشق اكول عن الحركة الشعبية لتحرير السودان (متمردون جنوبيون سابقون) في 2009، واسس حركة خاصة به تحت اسم "الحركة الشعبية لتحرير السودان-التغيير الديموقراطي".

وانهى اتفاق سلام في اواخر 2005 حربا اهلية استمرت 21 عاما بين الشمال، ذي الاكثرية المسلمة والجنوب ذي الاكثرية المسيحية والارواحية، كما نص على اجراء انتخابات رئاسية وتشريعية ومحلية، اتفق على موعدها في نيسان/ابريل 2011، وعلى استفتاء لتحديد مصير الجنوب في كانون الثاني/يناير 2011.

واضاف اكول "في الوقت الراهن، وفي ظل وجود الاعمال العدائية في الجنوب، والنزاعات بين القبائل، والنزاعات حتى ضمن القبيلة الواحدة، فان اي دعوة للانفصال ستكون دعوة لصوملة جنوب السودان".

وقتل حوالى 2500 شخص ونزح اكثر من 350 الفا في 2009 جراء نزاعات قبلية في جنوب السودان، المنطقة الشاسعة والمتخلفة التي تزخر بالثروات الطبيعية وبينها احتياطات نفطية ضخمة.

وسيقود اكول ائتلافا يضم عددا من الاحزاب الجنوبية الصغيرة، في وجه سالفا كير، مرشح الحركة الشعبية لتحرير السودان الى الانتخابات الرئاسية الجنوبية. وكان كير اعلن تأييده استقلال جنوب السودان الذي يتمتع حاليا بحكم شبه ذاتي.

والعلاقات بين حزب اكول وحزب كير متوترة للغاية، حيث منعت الحركة الشعبية لتحرير السودان اكول من ممارسة اي نشاط سياسي في الجنوب متهمة اياه بقيادة حزب لا يعدو كونه فصيلا مسلحا مدعوما من الخرطوم هدفه الوحيد زعزعة الاستقرار في الجنوب. غير ان المحكمة الدستورية، وهي اعلى هيئة قضائية في السودان، سمحت لاكول ولحزبه الاحد بممارسة الانشطة السياسية في الجنوب.

ولن ترشح "الحركة الشعبية لتحرير السودان-التغيير الديموقراطي" احدا الى الانتخابات الرئاسية السودانية، وقد سبق لها وان اعلنت دعمها للرئيس عمر البشير، الملاحق بموجب مذكرة توقيف دولية اصدرتها بحقه المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب واخرى ضد الانسانية في اقليم دارفور (غرب).

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 14/نيسان/2010 - 28/ربيع الثاني/1431

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1431هـ  /  1999- 2010م