شبكة النبأ: لا ترقى الأمم والشعوب من
دون الاعتماد على منظومة فكر وسلوك تواكب العصر وتجاريه مع الاحتفاظ
بالهوية التي تميز كيان الامة عن غيرها، بمعنى تحاشي الذوبان في أوعية
الثقافات الاخرى، وليس المقصود بالحفاظ على الهوية التحجر والانغلاق،
أبدا، بل لابد لكل أمة من الامم أن تحتفظ بكيانها وسماتها وهويتها على
العموم لكي يُشار إليها بالبنان من بين أمم العالم الأخرى.
وليس من السهولة بمكان أن يتحقق هذا الهدف على نحو متكامل، بل ينبغي
الركون الى منظومة اصلاح معاصرة تعتمد المقومات الساندة، وتبتعد عن
التخوف والتردد والانغلاق، بل لابد للامة الحية أن تسهم في الحراك
الانساني المتنوع وأن تقنع الامم الاخرى بجدوى وجودها وجودة مبادئها
كما هو الحال مع الامة الاسلامية التي استطاعت أن تقدم أرقى أنواع
الحضارات في زمن تسيّد فيه الظلام على الجزيرة العربية والمعمورة كلها،
لكن أصالة الاسلام وتنامي الشخصية الاسلامية ورسوخ هويتها أعطاها زخما
متواصلا لقيادة الاصلاح على مستوى العالم، لاسيما في مرحلة صدر الرسالة
التي تعد منأهم وأخصب مراحل الاسلام الحنيف.
بيد أن الهدف التفاعلي الكبير لم يتحقق إلا بالقضاء على المسببات
الكثيرة والمضادة للاصلاح ومنها التخلف الذي كان شائعا في المجتمع
العربي القبلي آنذاك، وقد وعى الاسلام إبتداء أهمية معالجة هذه
المسببات، وفي هذا الصدد يذكر المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد
الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (الاصلاح):
)من مقومات الإصلاح، القضاء على بيئة التخلف. فكما أن لكل مخلوق من
المخلوقات بيئته الخاصة به سواء كان إنساناً أم حيواناً أم نباتاً، من
ماء وهواء وشمس وأرض، وما أشبه ذلك. فللتخلف أيضاً بيئة خاصة به، فبيئة
التخلف هي الجهل والنزاع، والكسل والضجر، وشيوع الزنا والانحرافات
الجنسية، والمرض والكآبة، وعدم الأمن والبطالة، واشتغال كل بلذائذه
ومصالحه بأقصى ما يمكنه وعدم الاعتناء بحقوق الآخرين، عدم تحمل
المسؤولية وخدمة الآخرين).
وهكذا يكون التخلف من أكبر المعوقات الفكرية والمادية التي تقف في
طريق تطور الامة واصلاح ما يفسد من أنشطتها المتنوعة، ولعل التردي الذي
أصاب المسلمين بعد حلقاته المشرقة إبان قادته العظام، يكمن في حالة
الاهمال التي عُومل بها التخلف وتوابعه، وعدم التعامل النوعي مع
الوقائع وتفضيل المصالح الفردية او الفؤوية على العامة، وقد دفع
المسلمون ثمنا باهضا نتيجة لهذا التراخي وعدم التعامل بجدية مع مستجدات
العصر، إذ يقول الامام الشيرازي رحمه الله في هذا الصدد في كتابه
الثمين نفسه:
(الغريب أن المسلمين لم يتمكنوا من استعادة عزتهم واستقلالهم. فإنهم
أخذوا العمل بالقوميات ووضع الامتيازات على أساس العرق واللغة، وأخذوا
يعملون بقوانين غير المسلمين مفتخرين بذلك، فأخذت بلاد الإسلام
بالشيوعية والقومية بزعم نجاة فلسطين كما في مصر، وتركوا الأمة الواحدة
الإسلامية بما أوجب توسعة مشكلة فلسطين وغصب الأراضي الإسلامية أضعاف
ما كان سابقاً).
وهكذا تم التعامل مع قشور الحضارة وليس مع جوهرها، بمعنى أننا لم
نتفاعل مع جوهر الثقافات الاخرى بل أخذنا منها الشكل او القشر الخارجي
الذي لايمثل الجوهر الانساني للامم الاخرى، ناهيك عن تركنا او اهمالنا
لخزين عظيم من المبادئ الانسانية التي ينطوي عليها ديننا الاسلامي بدلا
من أن نرسخها ونديم حضورها ونفعّلها للاخرين ونجعلها تحت ابصارهم
وبصائرهم كونها من اهم مقومات الاصلاح الانساني، حيث يشير الى ذلك
الامام الشيرازي رحمه الله قائلا:
(من مقومات الإصلاح مواكبة العصر، فإن الدين الإسلامي هو الدين
الصالح لكل زمان ومكان، وفيه من الأسس والقواعد ما يجعله قابلاً
للتطبيق في مختلف الظروف، وهو الذي يضمن سعادة البشر وتطوره وازدهاره.
ولكن يلزم بيان هذه الميزات بشكل يفهمه الناس في العصر الحاضر، ليعرفوا
تفوق الإسلام على سائر الأنظمة المعاصرة).
وهكذا يحتاج الامر الى تواصل وتفعيل ومواكبة وتوضيح، لكي يكون
الاسلام بمتناول الجميع ومتفاعلا مع الجميع وضامنا للتأثير والتأثير
المتبادل، بمعنى أن الاسلامم يلتقي مع الثقافات والاديان في الجانب
الانساني الذي يقف الى جانب الانسان ويقوّم رحلته الطويلة والشاقة
والمتشابكة في الحياة ويضع أقدامه على الجادة الصواب. حيث ثمة مشتركات
على سبيل المثال بين الغرب والاسلام كما يشير الى ذلك سماحة الامام
الشيرازي في كتابه (الاصلاح) فيقول:
(إن بين الإسلام والغرب في العمل عموم من وجه، فالغرب والإسلام
يشتركان في المنع عن جملة من الجنايات ـ وإن اختلفت الطريقة والخصوصيات
ـ مثل تحريمهما القتل والسرقة والاختلاس، ووضع العقوبة لهؤلاء المجرمين
في الجملة، كما يشتركان ولو في نسبة، في التأكيد على النظافة والنظام
وبعض الأخلاقيات وحفظ الجوار والإتقان في العمل، ونحوها).
وعلى العموم تحتاج قضية الاصلاح بمفهومها العام الى جملة من
الاجراءات التي يتم اعتمادها لتحقيق المجتمع المتوازن والنظام السياسي
الناجح، وكلها تتطلب مواكبة متواصلة لمستجدات العصر مع الاخذ بزمام
الامور، وهذا ما يتطلب من المعنيين سياسيين ومصلحين ومثقفين وغيرهم
جهدا حثيثا ومبرمجا للوصول الى أعلى مرتبة من مراتب الاصلاح الاجتماعي
والسياسي في المجتمع. |