العملية الديمقراطية ليست سلعة تكنولوجية يمكن تصديرها إلى دولة
أخرى، ولا هي وصفة سحرية، بل هي عملية ديناميكية مجتمعية؛ حيث ينتج كل
مجتمع تجربته الخاصة به بناءً على تاريخه الثقافي والاجتماعي. نقل
تجربة ديمقراطية من دولة إلى أخرى أثبت فشله في كثير من التجارب؛ لذلك
نجد أن التجارب الديمقراطية في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية جاءت في
صيغ مختلفة، مع وجود قواسم مشتركة تجمع بين هذه التجارب.
إننا حينما نتكلم عن الديمقراطية، فإننا نعتقد بوجود دستور ينظم
العلاقات بين مؤسسات الحكم، ويحدد اختصاصات كل مؤسسة، ووجود قوانين
تضمن الحريات، وضرورة وجود معارضة تعمل وفق النظام وتؤمن بالعمل
السياسي السلمي، إضافة إلى وجود آليات تضمن ممارسة الشفافية في إدارة
الحكم. هذه المبادئ الأساسية قد تؤسس للحكم الرشيد، وتجنب الدولة
التوترات والاختناقات السياسية، وتفتح المجال أمام الدولة للسير قدمًا
نحو عملية التنمية بمختلف أشكالها.
قبل ستة أعوام حينما كنت في زيارةٍ لدولةٍ خليجيةٍ ضمن وفدٍ بلدي
للمشاركة في مؤتمر أقامته (منظمة المدن العربية)، التقينا بمسؤولٍ
كبيرٍ في هذه الدولة. المسؤول فتح لنا المجال للنقاش في مختلف القضايا
التي تهم منطقتنا الخليجية، بدوري طرحت موضوع نشوء الديمقراطيات في
الخليج، ثم بادرته بالسؤال التالي: “معالي الوزير... ألا تعتقد بأنّ
الوقت قد حان لتأسيس مجالس منتخبة في بلدكم الـ (...)؟”، ظننت في البدء
أن المسؤول سوف يرد على سؤالي بدبلوماسيةٍ وحنكةٍ سياسية، أو ربما
يبشرنا بوجود نيةٍ لإجراء انتخابات وتشكيل برلمانٍ منتخبٍ يراقب أداء
الحكومة، أو السماح بتشكيل أحزابٍ أو جمعياتٍ سياسيةٍ، لكن الذي حصل
أنه بادرني بالسؤال التالي: “من أين حضرتك؟”، أجبته من البحرين... أخذ
نفساً عميقاً، وقال: “شوف يا خوي .. التجربة أثبتت بأنّ الدول التي
تبنّت الديمقراطية تراجعت اقتصادياتها، وواجهت قلاقل ومعارضة.
نحن هنا قد ضمنا للمواطن الحقّ في العيش الكريم، فلماذا إذًا
البرلمان، وأحزاب معارضة، ومسيرات واحتجاجات واعتصامات كما هو حاصل
عندكم في البحرين كل يوم؟”، أجبته: “إنّ التجارب أثبتت أنّ الديمقراطية
هي الداعمة الأساسية للاقتصاد وليس العكس”، وأضفت: “صحيح أنّ هناك دولا
عديدة بنت اقتصادها من دون أن تتبنّى الديمقراطية، لكنّها في النهاية
لم تستطع الصمود، فانهارت، وذكرتُ الاتحاد السوفياتي سابقاً مثالاً،
وأما ما يحصل في البحرين من حراكٍ سياسي، فهو دليل قوة المجتمع
البحريني ونضجه وحيويته، وإننا في البحرين قيادةً وحكومةً وشعبًا
عازمون على السير قدماً بعون الله في مسيرة التكامل، وأما بخصوص
المسيرات السلمية فهو حقّ كفله الدستور، والتيارات السياسية المعارضة
في البحرين لها تاريخ حافل ومشهود منذ عهد الاستعمار، ونحن نفتخر
بوجودها خصوصا حينما نجدها تشارك في عملية التنمية السياسية
والاجتماعية والثقافية والاقتصادية”.
طال الحديث مع المسئول، وبعد أن أنهيت كلامي، لاحظت ملامح التأمل
في وجهه، وأثناء خروجنا من الاجتماع همس في أذني مسؤول آخر قائلاً: “صح
لسانك”، وآخر أرسل لي إشارة الرضا عبر ابتسامة حذرة. لا أرغب هنا في
الإشارة إلى اسم هذه الدولة ولا المشاكل التي واجهتها ومازالت تعاني
منها، والتي ترجع إلى فقدان الشفافية والمحاسبة، وعدم وجود برلمانٍ
منتخب، وعدم السماح بتشكيل كياناتٍ سياسية.
باعتقادي، أنّ وجود معارضةٍ مسؤولةٍ في أي نظامٍ سياسي يعتبر مكسبًا
للنظام السياسي، بخاصة إذا كانت هذه المعارضة فاعلة ومؤثرة في حركة
المجتمع، وفي المشاركة السياسية، وفي عملية الرقابة على أداء الحكومة؛
لأن وجود هكذا نوع من المعارضة، والتي تقوم بدور التقويم وليس التهديم
ستؤدي إلى تقوية كيان الدولة، ومنع الفساد وهدر أموال الدولة وأملاكها،
وفي النهاية تعزز الوحدة الوطنية، فلا معنى للديمقراطية من دون معارضة.
يقول الكاتب المغربي حسن السوسي في مقال نُشِر له في صحيفة “الحياة
اللندنية” بتاريخ 1/4/2010: “إن وضوح دور ومسؤولية السلطة السياسية من
جهة، ووضوح دور ومسؤولية المعارضة من جهة أخرى، هو الذي يمكّن المجتمع
من الاستقرار السياسي، ويعزز الوحدة الوطنية؛ لأن المشاركة السياسية هي
شرط بناء جبهة داخلية ووطنية متينة تكون في مستوى التحديات الداخلية
والخارجية”. |